للوهلة الاولى يبدو هذا السؤال متنافراً وما يضج به المشهد الراهن من “سياسيين” و”احزاب وكيانات سياسية” فأضابير المفوضية المستقلة للانتخابات، تضم أعداداً منها لم تعرفه كل التجارب الديمقراطية منذ الثورة الفرنسية الظافرة الى يومنا هذا. ومع كل هذا الصخب والضجيج السياسوي نجد حالنا أقرب الى ما قاله دعبل الخزاعي ذات غروب: “اني لأفتح عيني حين أفتحها/ على كثير ولكن لا أرى احدا”، كثير من أشباه الأحزاب لكن من الصعب العثور على حزب سياسي حقيقي بالمعنى الحديث لهذا المفهوم. مثل هذه العتمة والفوضى مهدت الطريق لنوع آخر من المتسللين لهذا الحقل الحيوي (السياسة) كي يروجوا لمناخات واجواء تسخف من كل ما يمت للسياسة بصلة، وهذا ما شاهدناه في المواقف المعادية لكل ما له علاقة بالنشاط السياسي و”الاحزاب السياسية” وهذا اخطر انواع العبثية التي لا تفضي سوى الى المزيد من التشرذم والضياع، وبالتالي التمهيد لنسف العملية السياسية والتجربة الديمقراطية الفتية، فمن دون وجود احزاب سياسية لا معنى لاجراء انتخابات لا مبكرة ولا في مواعيدها الدستورية، وهذا ما أدركه الرعيل الاول من الوطنيين والسياسيين العراقيين؛ عندما رفعوا في الاربعينيات من القرن المنصرم شعار (لا انتخابات من دون أحزاب سياسية).
أما “ليش ما عدنه سياسيين” فهذا ما يجب ان نتوقف عنده ونبحثه بعمق ومسؤولية، لا عبر طفح ووغف العواطف والانفعالات العابرة. أولاً وقبل كل شي علينا الاتفاق على المعنى الذي وضعته الامم والمجتمعات التي وصلت لسن التكليف الحضاري لمفهوم (السياسة) والذي نختزله بعبارة “خدمة الشأن العام” وهي عند الفلاسفة كأرسطو وتلامذته (السبيل للوصول الى الفضيلة والسعادة والعدالة..) وغالباً ما كان تناولهم لها مرتبطاً بالاخلاق والقيم السامية. أي هي بالضد تماماً لما تم اشاعته وترويجه عنها؛ أما كيف اصبحت قسمتنا منها هذا النوع، مما يمكن أن نطلق عليه بـ “دغل السياسة والسياسيين” فهذا ما يجب ان نقتفي اثره فيما خلفته لنا عقود من الحكم التوتاليتاري الذي استأصل كل ما له علاقة بالحريات السياسية والتعددية وارث وتقاليد النشاط السياسي والمهني والثقافي. كما ان انهيار نمط الانتاج الطبيعي للثروات وتراكمها وتوزيعها، وما رافق ذلك من انهيار واسع للطبقة الوسطى (رافعة التحولات والزحزحات الاصلاحية) قد شرع الابواب لما نواجهه من عجز وتشرذم وقلة حيلة في هذا المجال الحيوي في حياة الامم.
البعض يواصل نشاطه الديماغوجي لخداع الاجيال الجديدة؛ عبر الايغال في كيل المديح المجاني لقدراتها الخارقة على اجتراح المعجزات، من دون الحاجة للالتفات الى ما جرى لاسلافهم في هذا المجال (السياسة) وكأنهم نزلوا على تضاريس هذا الوطن من كوكب آخر…؟! لذلك يدعونهم لتشكيل “احزابهم” من دون الرجوع لذلك الرأسمال والارث الكبير من النشاط السياسي الذي خطته تضحيات ومواهب أفضل ما عرفه تاريخنا الحديث من زعامات وشخصيات سياسية مرموقة. ان عملية تأسيس احزاب سياسية جديدة؛ ليست بالمهمة اليسيرة لا سيما وهي تتطلب حزمة من الشروط الموضوعية والذاتية، لذلك ندعوا وبنحو خاص الأجيال الجديدة الى التريث في هذا الأمر والذي يبدو وفقاً للوصفات الاعلامية والتعبوية ناضجاً تماماً ولا يعوزه سوى الاعلان عن المولود الجديد..! وكما قال غرامشي “القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد…” والجديد الذي ننتظره؛ هي أحزاب خدمة الشأن العام لا الوصاية عليه وفرهدة موازناته العامة..
جمال جصاني