كراهية فايروس

“في مدن الطاعون تعيش مع مخلوقات همها الوحيد الاساءة للآخر” ألبير كامو

لنتمعن جيدا فيما يتضمنه هذا التشخيص العميق لمكان اجتاحه الطاعون، كي نتعرف على ما يمكن ان يقدمه لسكان وطن ابتلى باحد أشد الاوبئة القيمية والاجتماعية والسياسية فتكاً. انه فايروس الكراهية والذي مثلت “جمهورية الخوف” سنامه الاعلى، ومن يلتفت الى ما خلفته تلك الحقبة من اهتمامات وهموم محورها لا “الاساءة للآخر” وحسب بل انتزاع حقه في الحياة؛ يدرك شيئا من طلاسم المشهد الراهن، المثقل بكل اشكال الكراهية والتشرذم والاحقاد القديمة منها والمبتكرة بهمة الشبكات الاخطبوطية لوسائل الاعلام والمنابر التقليدية منها والحديثة، حيث يتم ضخ كل ما تحتاجه تلك الآفة (كراهية فايروس) كي تبقى وتتمدد على هذه التضاريس المستباحة. من منحته الصدف معرفة غير مزيفة عما مر علينا من وقائع واحداث؛ يعرف نوع المخلوقات والجماعات التي تسللت الى مفاصل الدولة والمجتمع الحيوية منذ العام 1963 الى يومنا هذا، مخلوقات تشترك بتاريخ طويل من العقد النفسية والعقلية، القت بظلالها الثقيلة على مصائر بلد استقبل سكانه مبكراً أفضل ما عرفته المجتمعات من افكار وقيم وتطلعات.

كما في (كورونا فايروس) حيث تتعطل الحواس، نجد (كراهية فايروس) ينتزع من العراقيين قدرتهم على الاحساس السليم بما يحيط بهم وما وهبتهم الاقدار من خصائص وشيم، وبالتالي امتلاك تصور صحيح عن نوع المخاطر والتحديات وهرم الاولويات الذي يفترض التصدي له. لذلك وجد العراقيون انفسهم وسط سيل من الحروب والنزاعات وفزعات نهش بعضهم للبعض الآخر، افضت الى ما هم عليه اليوم من تيه وعجز وهوان. لندع خيالنا يشط بنا بعيدا عن هذا المشهد المزري، ليرسم لنا معالم عراق ما بعد انجلاء جائحة (كراهية فايروس) بكل فضلاتها وآثارها الاجتماعية والايديولوجية والعقائدية والتاريخية؛ لتظهر للوجود مواهبهم وخصائصهم التي انتبه اليها غير القليل من الذين اهتموا وكتبوا عنهم، ومنهم الجاحظ ووصفه المشهور “ان اهل العراق، اهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث..”. عندما يبدأون بالتعافي من فايروس الكراهية ويستردون مواهبهم وقدراتهم على “التنقيب والبحث” هذه الخصيصة التي شكلت العالم الحديث وما يعرف بـ “اقتصاد المعرفة” سيكون لهم شأن آخر واسلوب حياة آخر لا علاقة له بنمط الحياة الطفيلية والشراهة التي يعيشونها اليوم.

لنتمعن قليلا بحقائق المشهد الراهن ونوع الاصطفافات والقوى والكتل المهيمنة على مسار الاحداث فيه؛ سنجدها جميعها تستعين بما يقدمه لها هذا الوباء من خدمات لتجديد حيويتها وتعزيز سطوتها، فمن دونه تتقوض وتتلاشى اقطاعياتها السياسية والمالية والاجتماعية. من دون مناخات الشك والتوجس والريبة السائدة بين ما يعرف بـ “المكونات” لا حظوة ولا مكانة ولا حاجة لاهل العراق بهم، لذلك نجدهم يكرسون كل قواهم ومواهبهم لابتكار المزيد من الذرائع والاحداث، كي تستعر وتتجدد الاحقاد واسباب الكراهية على اساس الرطانة والخرقة والهلوسات. لذلك طبع العجز والفشل بميسمه حقبة ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، بعد أن انخرط اهل العراق بتسديد فواتير لاحقاد وثارات لا نهاية لها على المدى المنظور، ليتم استنزاف كل امكاناتهم ومواهبهم وخصائصهم التي فطروا عليها في مسارب لن تفضي لغير المزيد من “الاساءة لبعضهم البعض الآخر” في مضارب ابتلت بجائحة (كراهية فايروس) وسلالاته المستجدة..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة