فوزي عبد الرحيم السعداوي
نظرة سياسية
لست متخصصا في اي مجال فني لاسيما الغناء لكني اولا اقارب الموضوع من منظور سياسي والسياسة هي اختصاصي وثانيا انا اؤمن ان في كل موضوع خاص يوجد بعدا عاما يوفر هامشا لغير المتخصصين بمقاربته ضمن حدود معينة .
شأنها كأمور أخرى كان تطور الاغنية العراقية له مدلولات سياسية تتعلق بطبيعة النظام السياسي والحريات والوعي والثقافة السائدة .
- كان نوري السعيد مغرما بالمقام العراقي ومستمعا جيدا لمؤديه وخاصة محمد الكبنجي الذي كان مقرباً منه حيث يروى ان السعيد لاحظ ان الكبنجي “مو على بعضه” كما نقول باللهجة العراقية فسأله مابك يا ابو قاسم فتردد الكبنجي ثم قال له مرتبكا…لقد اعتقل ابني بعد ان وجدوا لديه منشورات شيوعية…هون السعيد من الامر وقال للكبنجي لابأس عندما يسأل القاضي ابنك “هل هذه المنشورات لك” فعليه ان ينفي ذلك والبقية علي …فرح الكبنجي بذلك وعندما جاء موعد المحكمة سأل القاضي ابن الكبنجي “هذه المنشورات لمن تعود” فاجاب “انها تعود لي”…افشل قاسم محاولة ابيه ومحاولة السعيد لمساعدته…كان السعيد معجبا بيوسف عمر الذي كان في بداية حياته الفنية اذ تنبا له بمستقبل واعد .
في العام 1950 أو 1951 كان رائدا الفن العراقي الاخوان صالح وداود الكويتي يستعدان لمغادرة العراق الى اسرائيل في ظروف الهجرة المعروفة…استدعاهما نوري السعيد وطلب منهما تعليم كادر عراقي على اسرار فنهما.قبل ان يغادرا العراق..كان السعيد بشكل عام مستمعا جيدا للاغنية البغدادية المزدهرة انذاك .
عبرت الاغنية العراقية عن المزاج السياسي لتلك الفترة حيث الاستقرار السياسي فكانت في كلماتها تعكس ذلك كما الانسجام مع الوضع السياسي وهو ماانعكس في ازدهار الاصوات وتنوعها لاسيما وانه لم تكن هناك ضغوط من اي نوع على المغني ولم يكن مدح الحاكم امرا مطروقا…كانت طبيعة الاغنية العراقية في العهد الملكي تعبيرا عن نموذج حياة الطبقة الوسطى التي كانت تعيش حالة من الازدهار ممتزجا مع مايمثل حياة الفئات الحاكمة ..كان عزيز علي يمثل استثناء عن ذلك فمعظم اغانيه انتقادية وساخرة من الوضع السياسي حيث يقول انه كان يغني في الاذاعة وشاهد نوري السعيد من خلف الزجاج الذي يفصل بين الاستوديو وبينه فاشار السعيد الى عزيز علي ان ياتي إليه…يقول عزيز علي: ظننت انه سيكرمني ففاجأني مخاطبا: انت متخاف من الله ما تستحي !! حاط دابك وداب الحكومة.
تعتبر فترة الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي من اكثر الفترات استقرارا في تاريخ العراق الحديث ما انعكس على ازدهار قطاعات عديدة في المجتمع كالنحت وكتابة الرواية والشعر والثقافة بشكل عام وظهر للوجود العديد من الاكاديميين من الطراز الرفيع والذين اغلبهم كانوا قد عادوا من بعثات الى الدول الغربية امثال طه باقر وعلي الوردي واحمد سوسه وعشرات غيرهم في مختلف المجالات ..وكان الغناء واحدا من المجالات التي ازدهرت تلك الفترة فكان هناك محمد الكبنجي ويوسف عمر وسليمة مراد وصديقة الملاية وقبل ذلك منيرة الهوزوز ثم لاحقا عفيفة اسكندر و زهور حسين ولميعة توفيق وناظم الغزالي ورضا علي واحمد الخليل وحمدان الساحر ومجموعة من المطربين اليهود الذين يعتبرون رواد الاغنية العراقية..لقد شهدت تلك الحقبة بغض النظر عن طبيعة النظام الطبقية هيمنة الطبقة الوسطى على الحياة الاجتماعية وكانت جوهر المعارضة السياسية واحزابها..
وفي وقت متأخر مائدة نزهت ويحيى حمدي وعباس جميل ومحمد عبد المحسن اضافة لرموز الغناء الريفي ناصر حكيم وحضيري ابو عزيز وداخل حسن وجواد وادي وعبد الواحد جمعة وعبد الصاحب شراد وعبد الجبار الدراجي حيث انتشر الغناء الريفي على حساب الاغنية البغدادية التي تراجعت جدا في العهود السياسية اللاحقة..قد يكون ماابدعه هؤلاء في الاربعينيات والخمسينيات افضل ماتحتفظ به الذاكرة العراقية من طرب من ناحية اخرى فقد كان الذوق العام بمستوى جيد كان معه المستمع العادي يستمع الى ام كلثوم وعبد الوهاب ولاحقا فيروز التي ذكرت في منشور سابق ان رئيس المذيعين في اذاعة بغداد ناظم بطرس كان له برنامج يتواصل به مع المستمعين فاستلم رسالة من مستمع اشتكى من ان الاذاعة تفرض علينا وحدة توصوص يقصد فيروز التي كانت اذاعة بغداد الثانية بعد دمشق تفرد وقتا في الصباح لاغانيها…ماذا اجاب ناظم بطرس؟اجاب ان واجبنا ليس فقط الاستجابة لما تطلبون ولكن الارتقاء باذواقكم…على النطاق الشخصي احببت فيروز منذ بداياتها على رغم صغر سني متاسياً بوالدي الذي كان يفتح الراديو على صوتها الذي لم تكن له شعبية كبيرة … كانت كلمات الاغاني تتميز بمستوى عال من المعاني مع عدم استخدام اي كلمات نابية اوغرائزية او غير مؤدبة.
في العهد الجمهوري استمر الغناء العراقي في مسيرته بالمطربين أنفسهم عدا عفيفة اسكندر التي قاطعت العهد الجديد لبعض الوقت وفاء للعهد الملكي،لكن هنا دخل عامل جديد وهو استخدام الاغنية لمدح والثناء على الحاكم ..لم ينخفض مستوى الغناء لكنه اخذ يعبر بشكل صريح عن الوضع السياسي الجديد مما شكل عبئا على الاغنية ومتطلبات نجاحها الاعتيادية لمصلحة تلبية رغبة الحاكم فهذه مائده نزهت تغني يم الفستان الاحمر التي قيل انها اتت على ايقاع سيطرة الشيوعيين على الشارع وبالطبع فاللون الاحمر يرمز إليهم كذلك غنى محمد الكبنجي انا المغني في كل وادي يحيا زعيمي وتحيا بلادي كما غنى ناظم الغزالي اغنية ياقاهر الغرب واغنية للشعب تسلم تسلم وغنى حضيري ابو عزيز بمناسبة نجاة الزعيم قاسم من محاولة اغتياله وغنت مائدة نزهت اغنية حمد الله عل سلامة قائدنه ترف علامه وغنت احلام وهبي من زاخو لحد الكويت هذي فد دار وفد بيت وغنى محمود عبد الحميد عين كريم للامام ديمقراطية وسلام..
لم تكن ظاهرة مدح الحاكم قد اخذت ابعادها الكاملة كما حدث لاحقا لذلك كان تاثيرها السلبي محدودا وقد يعود ذلك الى شخصية الحاكم وهو عبد الكريم قاسم الذي برغم نرجسيته وولعه بالمديح الا انه كان شخصا خجولا لدرجة ان مدير الاذاعة والتلفزيون انذاك يقول ان عبد الكريم قاسم يحب اغنية عبد الكريم كل القلوب تهواك لكنه عندما يرغب بسماعها يخجل من طلب ذاك صراحة فيقول لمدير الاذاعة والتلفزيون شكو ماكو اذ يقول الاخير هنا افهم انه يريد الاغنية..مع ذلك فقد سن عبد الكريم قاسم سنة سيئة كان لها لاحقا تاثير مدمر على الاغنية العراقية التي اصبح واجبها الاساسي تعبويا وفي خدمة الاهداف السياسية للنظام بشكل مباشر…في العهد اللاحق لحكم الزعيم قاسم حدثت تغيرات سياسية واجتماعية وخاصة في خلفيات القوى المؤثرة على النظام بأمزجة بدوية وريفية وبالطبع ونتيجة التغيير السياسي كان المجتمع قد بدأ بالتغير وفقد الكثير من صفاته الحضارية والمدنية،وقد انعكس ذلك بشكل مباشر على الاغنية العراقية التي انخفض مستوى كلماتها وبدأت الاصوات الجيدة تخلي المكان لزوار جدد مثل أغاني الغجر “الكاولية” التي اصبحت تقدم من الاذاعة الرسمية بعد ان كان ذلك محرما سابقا في حين ان مطربا مبدعا كسعدي الحلي ظلت الاذاعة تقاطعه فترة طويلة بسبب ضوابطها الصعبة .