علي حسن الفواز
لست واقعيا جدا لكي أصدّق تماما بما يجري أمامي. فالعالم لا تصنعه الوقائع بالكامل، لأنه محاط بالأكاذيب أيضا، وسرديات الكذب في الثقافة والسياسة والاجتماع كثيرة وخادعة، ولها تأثير خطير على تهييج الناس، والى دفعهم نحو اتجاهات وانماط سلوك، او اغرائهم لتبني افكار وترويج اشاعات من الصعب القول بها تحت يافطة الواقعية.
الخلاف حول مفهوم الواقعية لا يعني انحيازي لما هو ضدي، والى التعاطي مع أفكار او سرديات تجرّ الواقع الى الخيال، بقدر ما أني أضع لعبة الكتابة في سياق من يُقارب تمظهرات يكون السرد فيها هو قناع الواقع، أو هو هويته في التاريخ، وهذا ما اعطى لمُفكّر كبير مثل بول ريكور لتأسيس علاقة تقوم على أساس التفاعل والتشاكل، وأن يُدرس السرد على أساس علمي لمستويات الحبكة وتأليفها، ولمستوى حركة أفعال السرد في الزمن، مثلما يخضع التاريخ الى ممارسة منهجية، لا تُعنى بضبط الواقعية فيه، بقدر ما تُعنى بطريقة تشكيله وتمثيل خطابه. ومن منطلق يتعالق فيه الواقع مع فعل السرد بوصفه حاكيا او راويا لما يجري في الواقع او في التاريخ.
هيمنة التاريخ عبر الاحداث والوقائع، هو ما نؤمن به في ثقافتنا العربية، وهو ما نحسبه واقعا، ومصداقا للقول الذي يأتي على لسان شخصيات عامة أو حكماء أو أبطال او حتى رواة غامضين، وحين بدأت واقعية التاريخ وسياساته تتفكك امام العلوم اللسانية والسيميائية والتاويلية، بدأ السرد بأخذ مكانه في صياغة الخطاب، وفي صناعة الهوية، وابتكار مستويات للسرد، حدّ ان الحديث عن الواقع بوصفه تاريخا صار مضحكا، مثلما أنّ الحديث عن التاريخ بوصفه وثيقة ساندة وحاكمة للحدث صار أمرا باعثا على السخرية، لأنّ مناهج التأويل، وتقانات الحفر في سطوح النصوص كشفت عن انساق مضمرة، وعن مقموعات لها رواتها الضد، او كذابون ومعارضون يناقضون الرواة الرسميين الذين جاهروا بما هو سائد في التاريخ والواقع.
إذا كان «ابن خلدون» قد قارب التاريخ من منطلق نظرته الاجتماعية والسياسية، فإنه جعل فعل التاريخ قائما على اساس النقل، أي نقل الخبر، والحدث، وهو موضوع مشكوك فيه، لأنه خاضع لمرجعيات السياسة والسلطة والقوة، فقوله إن التاريخ « خبر عن الاجتماع الإنساني، يعرض لطبيعة الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها» يؤكد هذا المعطى، وطبيعة ما يؤسس عليها، لأن هناك من ينتحل نقلا مضادا، وهناك من يدفع الى تأطير العمران والمعاش والعلوم بمرجعيات تخدم مصالح هذه الجماعة او تلك..
أنا اشكّ بالتاريخ، لكن ذلك لا يعني رفضا تامّا له، بل يدعوني لإعادة قراءته على وفق ما هو علمي، وعلى أساس أنّ كثيرا من مدونات ذلك التاريخ لا تعدو أن تكون سردا، له ظروفه واغراضه واهدافه، لكن ما يُميّزه صناعته بطريقة جاذبة، تُعبّر عن احوال جماعة ما، أو نمط من الهيمنة والعمران الثقافي والسياسي لها.
السرد في هذا السياق هو فعل الجذب، وفعل التمثيل والكذب، وهذا ما دعا مُفكّر آخر اسمه هايدن وايت الى تجذير مفهوم الشك بالتاريخ، وعدّ كل ما كُتبَ فيه سردا، وهذا السرد هو من يملك القوة والتأثير والفعل، وأنّ العالم يقيم تواصله عبر حيازته للسرديات، وعلى أساس ما يملكه من طاقة للحكي، ومن جعل هذا الحكي مصدرا مهما من مصادر الهوية والذوات، وتأصيلا لمجال مفهومي يتعلّق بالتخيّل التاريخي كما يسميه عبد الله ابراهيم، أو الرواية التاريخي كما يُسميها سعيد يقطين، وكلا الامرين اشكاليين في التسمية وفي التوصيف، لانّ الاصل يقود الى فعل السرد بوصفه المرجع، مقابل تهميش التاريخ الذي يتكئ على ذلك الفعل السردي.
العودة الى مشاكلة الواقع يعني بالنسبة لي تجديدا في النظر اليه، على اساس توصيفه كسرد، تُنتجه جماعة ما، قد تكون جماعة قومية او سياسية او طائفية او حزبية، أو قد تصنعه السلطة ذاتها، حيث يتحول من سرد أو تخيّل الى خطاب له شروطه والياته في التداول وفي الاستعمال وفي صناعة وبث المعرفة المؤسسة على ما هو قبلي من سرود قهوية.