بلاغة الإيجاز في النص المفتوح

كه يلان محمد

وردت مفردة «الغنائية» غالباً لوصف اللون الشعري الذي يفيضُ بالعاطفة ويعكسُ المشاعر الوجدانية العميقة، ويتميزُ هذا النوع من الشعر بصرف الاهتمام عن المواضيع التي تقع خارج هموم الذات الشاعرة.
طبعاً أنَّ ما كتبهُ الكاتب الإيطالي ألساندرو باريكو بعنوان «1900» يتصفُ بخصائص غنائية على عدة مستويات، ويمكنك أيضاً أن تضع هذا النص السردي القصير ضمن خانة المسرحيات المُغناة، وما يدعمُ الجانب الغنائي في بناء النص هو انفراد إحدى الشخصيات بالمشهد. إذ يسردُ الراوي المُتضمن سيرة عازف البيانو، فالأخير هو نواة النص المفتوح على التقنيات المتنوعة من المسرح إلى السيناريو والقصة. فإنَّ البنية المكانية التي تنطلقُ منها الأحداث هي عَبّارة «فرجنينيان»، أما العنصر الزمني فتعبرُ عنها الإشارات إلى التواريخ التي تُحيل إلى الشخصية الأساسية، وبذلك يكونُ البطلُ مركز السيرورة الدلالية في بنية النص لأنَّ كل ما وردَ في سياقه يرفدُ مسارات الشخصية التي يؤشرُ إليها العنوانُ الذي لأول وهلة تراهُ مجردَ رقمٍ مُحدٍد لتاريخ معين. لكن هذه العتبة مُتعلقة بمفردات لا يمكنُ فك شفيراتها إلا مع قراءة المحتوى السردي.
يُذكرُ أنَّ اسم البطل يلفه الغموضُ وليس مُسجلاً ضمن أضابير أي مدينة في العالم، إنما هو عائم على البحر، ولا تعني له اليابسةُ شيئا. لكن اختلاطه بجنسيات مُختلفة على ظهر العبارةِ مكنهُ من النفوذ إلى المدن المأهولة بحاناتها الصاخبة وشوارعها المُبللة برائحة المارة، ما يعني تميز البطل في قراءة البشر على حدِ تعبير الراوي، وهكذا بدأت تقاسيم جغرافيا العالم بالتكوين في ذهن «1900» بناءً على ما يوحي به وجه ركّاب العبارة.

العُلبة
تبدأُ حركة السرد برصد المشهد المُتكرر إذ أن هناك من يسبقُ جميع المُسافرين في رؤية الوجهة التي تمخرُ العبارة ُالأمواج نحوها فيلتفتُ إلى الركاب مُطلقاً صوتاً مُنخفضاً أميركا يوكلُ صاحبُ «المدينة» بعازف البوق مهمة متابعة وقص ما يدور على متنِ العبارة. فهو كثيراً ما يرى أميركا في عيون المُسافرين وقضى ست سنوات ضمن الفرقة الموسيقية التي يعزفُ أفرادها يومياً ثلاث مرات فإنَّ ركاب هذه السفينةِ توزعوا على المقيمين في الطبقة الأولى، ومن ثم منْ يسكنون في الطبقة الثانية أخيراً المهجرون البؤساء الذين قد يُنْعَمُ عليهم أحياناً بمعزوفة تزيدهم الأمل بالأحلام الموعودة. وما يجعلُ الموسيقى ضرورياً في عرض البحر هو رهابة هذا العالم وحاجة المُسافرين إلى الرقص حتى لا يموتوا.

خصائص غنائية
يعتمدُ المؤلفُ على المفارقة لإضفاء طابع عجائبي إلى الشخصيات المتواجدة في العبارة. لذا يصفها الراوي بأنها خارجة عن المألوف. فقبطانها يعاني من رهاب الاحتجاز، ومسؤول الاتصالات ألكن وأعسر كذلك فإنَّ الطبيب تنفر من اسمه المعقد. والربان أعمي. وما لا يتوقع مُصادفته خارج هذا المكان هو وجود فرقة موسيقية بمواصفات فرقة «أتلانتك جازباند.»
وهنا يستندُ باريكو إلى التقنية المسرحية لتقديم أعضاء الفرقة الموسيقية على لسان إحدى الشخصيات. وآخر من يُنطقُ اسمه عازف البيانو (ت. دليمون 1900) الموصوف بالعازف الأعظم. يُعيدُ هذا الملفوظ بالمتلقي إلى عتبة العنوان. فبالتالي يفردُ عــازف البوق المساحة السردية لتتبع حياة عازف البيانو. ومن المعلوم بأن ما يشدُ أطراف النص هو العبارات التي يبقى مدلولها ضبابية إلى أن ينجلي الغمـوض بوجود مقطع آخر. وما يقولهُ الراوي عن لقائه الأخير بعـازف البيانـو بأنَّـه كـان جالسـاً على صندوق الديناميت، لا يمرُ عابراً إنما ترتبـطُ به نهاية النص. ضـف إلى ذلك ما ينقلُ عن عازف البيانو بصيغة الحكم «لا تحــلُ عليــك اللعنـة ما دمـتَ تحظى بقصـة حيـاة فريـدة وأحـدٍ ما ترويهـا على مسامعه» مؤشرُ لإنطلاقة قصة الرضيع الذي وجد في علبة كرتونية.

الهارب
شاء القدرُ أنْ يكون داني بوودمان مُكتشفاً للعُلبة التي ركن فيها المولود وذلك بعدما ينزلُ المُسافرون في بوسطن آنذاك كان عمر الرضيع لم يتجاوز عشرة أيام. ولم يجد العجوزُ ما يثبتُ هوية الطفل سوى كلمات مكتوبة بلون أرزق «ت .د.ليمون» أخيراً يتعهدُ الزنجي بالطفل مُقتنعاً بأنَّ العِبارةَ المطبوعة على كرتون تعني شكراً ياداني، ومن ثُمَّ يقترحُ أحد البحارة على الأخير إضافة كلمة «الثلاثاء» إلى اسم الطفل وبدوره يروق ذلك لداني لأنَّه عثر على العلبة في بداية القرن عليه فإنَّ الطفلَ يُسمى بـ (داني بوودمان.ت.د1900).
نجح المؤلف في توظيف تقنية التلخيص في سرد حياة البحار داني إلى أن يُصيبُ بطعنةٍ جراء سقوط إحدى البكرات وهذا ما أقعدهُ وبينما كان البحار يحتضر إستمر الطفل في قراءة أخبار السباق على مسمعه. ينطقُ الحروف كما تعلم من داني أن يضغط بإصبعه على ورقة وتركيز نظره على الحرف. بعد رحيل العجوز يصبحُ بوودمان يتيماً من جديد، ومازاد من معاناته هو عدم امتلاك الأوراق الثبوتية لأي دولة وما انتسب إلى أي شعب لذا قرر قبطان السفينة تسليم 1900 إلى السلطات في ميناء ساوثامبتون، ولكن يختفي الطفلُ وتفشل حملة التفتيش للإمساك به.
يتأسف البحارة على غياب 1900 ويصعبُ عليهم تلاشي ظله لكن ما أن تنطلق العَبارةُ نحو رديو جانيرو حتى يتفاجأُ العريف بوجود 1900 في صالة الرقص جالساً على كرس البيانو يعزف كأنه سديمُ تغلغل لحن إلى الأعماق بحيث تسمرت زوجة مقاول أميركي مستغربةً المشهد، وما كان منها إلا أن تذرف الدموع. هنا يدسُ الراوي كلمات مزخمة بطاقة شعرية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة