لم يمر وقت طويل على تبخر مؤسسات النظام المباد العسكرية والامنية وشبه العسكرية، بعد رؤية ظلال شبح احدى الدبابات الاميركية على احد جسور بغداد؛ حتى وجد القادمون الجدد للغنيمة الأزلية أنفسهم امام مهمة سد ذلك الفراغ الهائل الذي تركته ما عرف لاحقاً باسم “الاجهزة المنحلة”، لتشرع الابواب أمام طفح من الاعمال العشوائية بغية بناء ما يفترض انها الاجهزة الضاربة للنظام الجديد. نتيجة ذلك تجرعناه جميعاً (افرادا وجماعات) وعند شتى المحطات التي مررنا بها طوال أكثر من 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية. ذلك الاصرار على اعادة تدوير مناهج واساليب وغايات النظام المباد؛ في شفط مؤسسات الدولة واجهزتها لصالح اتباعه وتنظيماته الحزبية، الحق أفدح الاضرار بما انتظره العراقيون من آمال وتطلعات. هذا الوباء الذي اورثتنا اياه حقبة “جمهورية الخوف” أي ابتلاع الحزب (العصابة) ومن ثم “القائد الضرورة” للدولة بكل تفاصيلها، أصبح بهمة قوارض حقبة الفتح الديمقراطي المبين برهاناً على ما قاله كارل ماركس “الاحداث تكرر نفسها مرة كمأساة واخرى كمهزلة”.
ان يتحول أكثر من مليون عسكري وعنصر امن الى ما يشبه “خراعة الخضرة” في ظل عصيدة “النظام الجديد” اذا لم تكن هي المهزلة فما الذي تستحقه من تسميات..؟ لن نجافي الحقيقة والانصاف ان قلنا عنها انها “خراعة سلطة” أي سلطة منزوعة السلاح، لا تكش ولا تنش في مواجهة ما يفترض انها قد وجدت من أجله. هذا المصير الذي آلت اليه أجهزة ومؤسسات وجدت لتمارس وحدها “العنف الشرعي وفقاً لكل الدساتير ووظائف الدول الحديثة” لم يأتي من فراغ، كما انه لا ينحصر بمشيئة عدد من حيتان المشهد الراهن، لانه نتاج منظومة معقدة من العلل والاسباب والشروط الاجتماعية والسياسية والنفسية، وكل محاولة صبيانية للعبور على كل ذلك الارث من التشرذم والتفاهة وضيق الافق المهيمنة، عبر تحويل “خراعة السلطة” هذه بين ليلة وضحاها الى مؤسسات حضارية تنتصر للدولة والقانون وشرعة الحريات وحقوق الانسان؛ فلا يمكن استقباله الا كنوع من الهلوسات التي يمتطيها البعض هرباً من مواجهة التحديات الفعلية.
لقد مثلت نكسة حزيران العراقية في العام 2014 مثالا سافرا على ذلك الخلل المميت، صحيح ان روح الايثار والبسالة والتضحية لدى الكثير من العراقيين، قد وضعت حدا لتلك الغزوة الهمجية، الا ان ملف بناء الدولة ومؤسساتها ولا سيما منها العسكرية والامنية، لم يحظ بالاهتمام والوعي الذي يستحقه وحسب، بل ازداد تعقيدا مع اعلان الانتصار على داعش، عندما تحول التطوع الشعبي الواسع وما رافقه من صفحات مشرقة في الدفاع عن الكرامة والحرية، الى مسارب اخرى بفعل الاستثمارات السياسية والعقائدية الضيقة لعدد من الكيانات المدججة بالاجنحة العسكرية، لنصل الى ما نحن عليه اليوم من عجز وهوان، لا تحسدنا عليه آخر القوافل التي تركت حياة الادغال. ان عملية امتلاك او مشروع بناء لمؤسسات الدولة الحديثة، ولا سيما منها الجيش والاجهزة الامنية، لا تاتي بمعزل عما يجري في ميادين الحياة الحيوية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقيمية..) وفي تلك الحقول يمكننا التعرف على علل ما امتلكنا “خراعة سلطة” حيث يتمدد على تضاريسها باسترخاء واطمئنان؛ كل ما له علاقة بالتصحر والضحالة وضيق الافق وما يرافق ذلك من مآثر وفتوحات وقادسيات تنتظرنا على الطريق…!
جمال جصاني