يوسف عبود جويعد
تنتقل بنا الروائية رغد السهيل في روايتها (منازل ح 17) إلى بدايات القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني منه، لنطوف معها في مدينة قزوين الإيرانية، بأسلوب حكائي جمع بين الموروث الشعبي لحكاياتنا، متضمنًا حركة التاريخ والمؤثرات التي حدثت في تلك الحقبة الممتدة لأكثر من قرنين، وقد ظهرت المتغيرات السردية والمعالجات والجهد الفني بشكل واضح، من خلال التعامل الواعي وزاوية النظر التي اتخذتها لتقديم السياق الفني، الذي لا يعتمد على الأحداث وحدها أو الشخوص أو المادة التاريخية أو الحكاية التي اقتنصتها من بطون التاريخ والرواة المتمثلين بمجموعة من النسوة بما فيهم أم وجدة بطل النص وغيرهم من النسوة اللائي وصلت لهم حكاية قمر الزمان القزوينية.
قسمت الفصول الى منازل وابواب ونوافذ وكل منزل يتناول جانبا يخص حياة بطلة هذا النص، وتلك المنازل هي تسعة منازل: منزل المحاق وفيه بابان، باب الحرب، وباب الحب، مع نافذة تطل من خلالها الروائية لتقدم لنا ما يشغلها ويهمها من جوانب تحتاج إلى إضاءة وتوضيح، أو تكون رافدًا مكملاً لعملية سير حركة السرد، وباب منزل الهلال المتزايد: وفيه باب الحزم مع النافذة، وباب منزل التربيع الأول: وفيه باب الخيبة الصغرى مع نافذة، ومنزل الأحدب المتزايد: وفيه باب الحلم مع نافذة، ومنزل البدر: وفيه باب الحلم، وباب الحرف، وباب الحنق، مع نافذة، ومنزل الأحدب المتناقص: وفيه باب الشناشيل وباب الحيرة ونافذة، ومنزل الهلال المتناقص: وفيه باب الحبس وباب الحزن وباب الحُكم ونافذة، ومنزل العرجون القديم: وفيه باب الحصاد، ونافذة، وباب الحرية.
وبما أن تلك المنازل تفضي إلى أبواب تخص حركة السرد، فإن عدد تلك الأبواب سبعة عشر بابًا، وهي المنازل التي تقصدها الروائية في بنية عنونتها، وتحت كل منزل التاريخ الهجري، والتأريخ الميلادي، وتحت هذا التأريخ تقدم الروائية مجموعة الراويات اللواتي قمن بنقل تلك الأحداث، من أجل أن تحافظ على مصداقية الأحداث مستندة على مجموعة الراويات حيث ستكون مهمتهن نقل الأحداث كما جاء في الفصل الأول وهو ديدن كل الفصول:
(منزل المحاق)
قزوين 1237- 1239 للهجرة (1821 – 1823 م)
روته سمانة خانم عن شمس خانم عن أمها عنبر خانم عن الحاجة خديجة عن الحاجة قمر عن أمها الحاجة زعفران.)
وبهذا فإن الروائية رغد السهيل قد هيأت الأجواء الحكائية والتاريخية لدى المتلقي ليخوض غمار تجربتها في صناعة روايتها، مستخدمة اللغة المركبة التي اختارتها التي تجمع تنوعًا واضحًا بين اللغة الحكائية والتاريخية والسردية، مستندة على المصادر التي اعتمدتها في نقل الأحداث مع هوامش تشير إلى تلك المصادر.
وهكذا عملت الروائية من أجل استحضار كل الأجواء التي من شأنها أن تسحب المتلقي من القرن الحالي إلى القرن التاسع عشر، بكل تفاصيله بعد أن نكون قد اجتزنا المقدمة التي وضعتها الروائية مستهلاً ومدخلاً لمتن النص:
(جمعت امرأة العلم الواسع الغزير والجمال الفتان الرهيب في القرن التاسع عشر الميلادي وتنقلت بين بلاد فارس والعراق فتداولت الشفاه أخبارها التي أسردها لكم كما وردتني).
وهكذا نكون مع قمر الزمان منذ طفولتها واهتمامها وانشغالها بالمعالم والأفكار التي هي أكبر من حجمها:
(كانت طفلتي جامدة واجمة تبحلق في السجادة، سألتها:
بِمَ تفكرين يا قمر الزمان؟
وضعت سبابتها أسفل حنكها، ورفعت رأسها: أفكر في نجوم المرقد، أريد نجمة يا أمي !.
- لا حول ولا قوة إلا بالله…اتبعيني وكفي عن الهراء.) ص 17.
ونمضي مع تفاصيل حياة العالمة قمر الزمان، وهي تنهل العلم، وتتعلم وسط أجواء علمية كل التعاليم الحياتية، في الدين، والفقه، والشريعة، وتفسير القرآن، والفلسفة لتنمو بفكرها ووعيها، ومن الطبيعي أن الروائية دخلت بطون التاريخ لتكتشف واقع الحياة في القرن التاسع عشر، وكيف تكون تفاصيل الحياة في الملبس والطعام، وحركة الحياة، والسلطة، لأن تلك الأحداث دارت في زمن الحكم الخاقاجاري، حيث كان أبوها رجل ورع وعالمًا، وكذلك أمها ومحيطها الذي تعيش فيه، ومن أجل أن نلاحظ دقة تفاصيل الحياة:
(واجتمعوا حول وليمة طعام فاخرة فيها ما لذ وطاب من الأطعمة المنسقة في صوان من الذهب، وقد رصت الحلوى والفاكهة في أوانٍ مرصعة بالأحجار الكريمة من اللؤلؤ والياقوت والمرجان والزفير والفيروز، ورتبت كؤوس الأشربة الزجاجية المنقوشة بألوان الفسيفساء حول المائدة، ثم حملتُ أنا آنية من الذهب الخالص ودرت بها بين الحضور ليغسلوا فيها أيديهم حين انتهوا.) ص 41
وقد استخدمت الروائية الأنماط الأدبية المتبعة في النسيج السردي، العجائبية والغرائبية، والفنتازيا، حيث نجد في هذا الجانب، حياة النملة وحديثها، وشجرة التوت العجوز ومعاناتها:
(عندما لمستني أول مرة خفت منها، تصورتُها دودة أضخم من الديدان التي تقضم أوراقي، وتسبب لي المرض، ولكنها لم تفعل سوى تأمل عروقي، فاستمتعت برقة أصابعها على أجزائي، وتنشقت أريجها العطر حولي) ص 45
ومن الجدير بالذكر أن العالمة الفقيهة قمر الزمان، قد ولدت ومعها عطرها الذي ينشر أريجه أينما حلت، وننتقل بين الأبواب والمحاور لنعيش تفاصيل تلك الحياة، حيث تتسع دائرة معلومات قمر الزمان وتزداد معرفة، وتحضر مجالس مباهلة مع العلماء، وتتفوق على الكثير منهم، كونها تحمل فكرًا تحرريًا يتيح لها الاجتهاد بوعي ودراية، واكتشافاتها الكثيرة في مجال الفقه وأمور الدين، الذي ظل قالبًا مقيتًا لا يخضع لأي تغيير بما تتطلبه مراحل الحياة المتغيرة، وهي تضع التفاسير وفق هذه المتغيرات، وتجتهد من أجل إعلاء دور المرأة ومكانتها.
وتتزوج إلا أن زواجها لم يكن موفقًا بسبب الخلاف المستمر بين وعيها ووعي زوجها الذي لا يفقه عن دعوتها شيئًا:
(تأملت الرجل الذي ابتليت به، وهو لا يحمل من رجاحة عقل أبي قيد أنملة، ينعتني بأسوأ الألفاظ كلما عجز عن دفع الحجة، فالتزمت التقية بكل قناعاتي، وظل عقلي يعمل ليل نهار، وأنا ساجدة عابدة أواظب على قيام الليل، وأداء النوافل فأعترض بأنه لا يوافق على قيامي الليل، وبهذا خالفت الشرع، فضاعف ذلك من البون بيننا، وشرخ البقية الباقية في ارتباطنا، فالتزمت لغة الصمت معه.)ص 87.
وتنجب له ولدين، إسماعيل وإسحاق، ولأنه يخاف أفكارها ودعوتها فما أن شبا حتى أرسلهما إلى حوزة النجف خوفًا من أفكار زوجته، وينتشر فكرها ويكبر صيتها، وتتوجه إلى كربلاء، وتسكن عند الشيخ الرشتي التي تؤمن بأفكاره، وتقيم مجالس خطابة، وتتحدث مع جمع المؤمنين من الرجال من وراء حجاب، إلا أن تكون امرأة إمامًا وخطيبًا لدى الرجال هو أمر غير مستساغ ورفضه بعض العلماء، وحيكت لها المكائد من أجل إيقاعها، فتضطر إلى العودة إلى قزوين، وهناك تواجه الأمر والأصعب فتعيش حياله مهددة، وتسجن لمرات عديدة، ويحاول والدها وعمومتها التخلص منها، وهي تنتظر المخلص الذي سوف يظهر ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا.
وهكذا تتعرض لحصار كبير، ويضيق عليها الخناق، من أجل دعوتها التي تدعو فيها إلى التحرر وتغيير التأويلات القديمة في الفقه والدين والتفسير، إلا أن ذلك له تأثيره الكبير، كونه هز عرش السلطة والعلماء، وننتقل إلى النافذة الأخيرة التي تجد فيها الروائية متنفسًا تطرح فيها الجوانب التي تحتاج إلى توضيح:
(حين أوشكت على نهاية المخطوطة التي تناولت أخبار تلك المرأة العجيبة نقلاً عن ألسنة الراويات وصلني كتاب هدية عن حياة الملكة أروى بنت أحمد الصليحي التي حكمت اليمن سنين طويلة، وهي كما يقول الهامش المثبت أسفل الصفحة أول ملكة في الإسلام تلقب بالسيدة الحرة حكمت للفترة 492 – 532 للهجرة، تركت منجزات عظيمة في اليمن) ص 270
وهكذا تقتل قمر الزمان تلك العالمة المتحررة، التي أكدت أن المرأة لا تختلف عن الرجل وأنها كيان يكمل بعضه بعضًا:
(بكتها رضية خانم عندما سلمتها هُما خانم الأمانة، فقرأت في الظرف عبارة يتيمة: يا صديقتي الظلم لن يستمر، سيقتلونني كما قتلوا زوجك مرة واحدة، لكنهم سيتقاتلون مع بعضهم سنين طويلة، ما لم يطهروا دينهم من سوء التأويل، فلا تفقدي إيمانك بالخلاص.) ص 293 .
رواية ( منازل ح 17 ) للروائية رغد السهيل، تنقلنا إلى القرن التاسع عشر بكل تفاصيل حياته المبهرة ومع العالمة الجليلة قمر الزمان وحكايتها، ولن نخرج منه إلا بعد أن نكون أتممنا رحلتنا معها.