ابتسام يوسف الطاهر
كان الشاعر «طه الطاهر» زاهدا بالنشر مبتعدا عن اضواء الشهرة، لاسيما في زمن استغلال الإبداع للدعاية لسلطة الدكتاتورية، وبعد محاولة الرقيب لبتر الكثير من قصائده في ديوانه الذي كان يزعم نشره. لم يحفل بموضوع نشر قصائده في أي صحيفة. لكنه لم يتوقف عن الكتابة فالكتابة بالنسبة له حاجة يومية حياتية «كحاجتي للتحدث معكم» كما قال في احدى رسائله لنا.
«أواه.. لابد ان اكتب لكم
اكتب لكم عنا..عنا جميعا، عن العراق
عراق النخيل والبردي
عراق المياه والأنهر
عراق المدينة الاسنة»
كتب عنه بعض الشعراء والكتاب.. ولكن بعد رحيله. منهم الشاعر عيسى الياسري كتب « اعتذر لو أزحت كل نظريات النقد ومناهجه وفرضياته بعيدا عن مملكة قصائد طه الطاهر.. لا اريد هذه النظريات والفرضيات ان تتطفل على تجربة مدهشة في براءتها .. فلم يكن الطاهر آبها بمدارس الشعر وتقسيمات أجياله.. وزاهدا بالشهرة التي ينالها من خلال نشر النصوص. التي كان يعتبرها جزءا من مقتنياته الثمينة و الأثيرة لديه. لم يساوم عليها ولم يسمح لأي متطفل على الشعر ان ينظر اليها من وراء زجاج نظارته العمياء ليملي عليه دروسه في تعليم الشعر.. كان يدرك ان الشعر هو معلم هذا الكون، منذ بدء الخليقة حتى اخر قصيدة كتبها السياب او بابلو نيرودا او فدعة (الشاعرة الشعبية من التراث العراقي). هكذا كان درويشا يرتدي جبة الصوفي شعرا ويسير بها بعيدا عن الزحام..
«كانت قصيدة النثر لدى طه الطاهر فريدة من نوعها. ففي الوقت الذي كانت تلك القصيدة وعلى يد بعض الشعراء لا تعدو كونها لعبة شكلية داخل اللغة.. بعد ان يتم عزلها عن مكونها التجريبي والوجداني، كان يسير بعيدا في قصيدته عن ذلك السرب..كانت قصيدته هما يوميا، اللغة فيها حرة طليقة.. قصيدة يومية بكل المواصفات، بسيطة كسحنة الناس البسطاء..»
يخاطب الحياة ساخرا ومتحديا.. وزاهدا بها وبنفس الوقت ساخطا من غياب عدالتها وإمعانها في سرقة من احبهم وإبعادهم عنه.
«ياحياة
شزرا انظر اليك
وانت تبعثرين اوراقي
اوراقي الاثيرة ال
واحدة تلو الاخرى
… كيف بوسعي ان اوقف عدّك اللعين
هذا العد النازل الباهظ
من رياض الى هاشم ومن موسى الى ابو نبيل
ومن حسين الى حسنة مانع»
ليسوا اساطير ولا ابطال أصحاب تلك الأسماء، بل هي اسماء لا ناس احبهم، مناضلين وشعراء وبسطاء متعبين يشكلون المعنى الاول للحياة.
الياسري كتب عن هذه القصيدة « أشخاص بسطاء ودودون كبساطة وطيبة الشاعر، اتخذ منهم مادة لقصيدته ومن هنا حقق دراميتها وتراجيدتها من دون تكلف، ولا العناء الذي تجشمه هوميروس للبحث عن ابطال خارقين حتى يحقق تراجيدية الالياذة والاوديسة. فهنا نماذج ملحمية لا لشيء سوى انهم عاشوا واسسوا الحياة، حياة حرة وبسيطة». فالتقى في قصيدته الشاعر رياض البكري المناضل الشهيد، مع هاشم الرسام الجميل كلاهما رحل مبكرا. وموسى اخيه الاكبر مع المناضل السياسي الشهيد ابو نبيل.
حجم الحزن والالم الذي عاشه الشعب العراقي في زمن حروب صدام العبثية والحصار . اثرت في الشاعر وهو المرهف بمشاعره الوطنية والانسانية لذا قصائده لم تبعد او تبحر في عالم خيال حافل بالرومانسية. وانما كان نورا كاشفا لواقع عاشه الشعب، تضاعف ثقله على روح الشاعر.
« عائد هذا المساء العميق
مساء الحزن الذي طرق الأبواب مبكرا
اجر نفسي
تارة كناقلة بترول كبيرة
وأخرى ورقة على الشارع يطيرها الهواء
ولكن..
ها قد انقضت ليلة اخرى»
لكنه بقي متشبثا بالأمل.. محاولا جهده ليبقي على صحبة الرجال الطيبين الضاحكين مرفوعي الرأس، وان تناءى الزمن بأغلبهم.
«هناك شلة من الرجال الضاحكين
مرفوعي الرأس
يتحلقون بين ليلة واخرى
حول مائدة عامرة
مترعة كؤوسها بالحب والأدب
بالمناكدة ، بالجنس، بالسياسة
حافلين بكل أمل..وعابثين بكل يأس
متحلقين يتحدثون عن فدعة ودستويفسكي
جاهدين ينتزعون لياليهم
ليلة تلو اخرى
كتب الشعر منذ صباه حين كان في المرحلة المتوسطة.. وربما قبلها لكني لم أطلع على ما كتب قبل تلك المرحلة. أما القصة فلم يباشر كتابتها قبل بداية التسعينات. كانت بعض من تلك القصص هي مشروع صياغة او نحت تماثيل كما قال عنها.. ابطالها التقاهم او سمع عنهم. ابطال حقيقيون بسطاء وشجعان. فيها محاولة لرد الاعتبار للإنسان العراقي. الذي كادت تحطم صورته ماكينة الإعلام في ذلك الوقت. قبل رحيله المبكر كتب عن قصصه، جوابا لسؤال البعض عن سر اهتمامه بالقصة؟
«كنت اطمح في بعض القصص أن تعلموا وانتم بعيدون، ان هناك من يستطيع التحدث بأحاديث عراقية.. بسوالف خالية من الزغل (الكذب والنفاق او الدجل) فقصة تمثال في كاني ماران، هي وفاء للعراقيين الصادقين. فنحن هنا في مد وجزر دائم سواء فيما يخص الكتابة او القراءة. لو عرفتم مقدار ما نحن فيه من بلادة لكثرة مصادر الرعب، و انشغالنا بما لم يخطر ببالنا يوما..».
كتب ذلك خلال أيام الحصار الذي فرض على الشعب العراقي لإضعافه وجعله لا يهم الا بكيفية تدبير لقمة العيش. كما اراد الشاعر ان يشير لذلك في رسالته. سمى بعض من محاولاته القصصية، صناعة تماثيل، لشخوص حقيقية اعتز بها.. شخوص عراقية، بما يكنه العراق من محبة وطيبة وحس انساني عالي مثل قصة تمثال في كاني ماران..او قصة الحافة.. اراد ان يرد بها على من سنوا سكاكين الحقد على الشعب العراقي، وعلى الذين دمروا العراق بسلوكهم من قادة أو مسؤولين لا ضمير لهم.
كتب الشاعر والناقد كريم النجار عن تلك القصص: «قصصه التي عنونها بالتماثيل خير شاهد على وفاءه لأشخاص عرشوا في ذاكرته كأبطال اسطوريين في خضم أوضاع متقلبة وشائكة. فحبشان بطل قصة (تمثال في كاني ماران) الرجل الجنوبي الجندي البسيط الذي اجبر على الخدمة العسكرية في القرى الشمالية التي يقطنها الكرد. وبالرغم من بساطته اذهل زملاءه ومرؤوسيه لموقفه الرجولي والشجاع بعدم تنفيذ أوامر مرؤوسيه، بقصف القرية». بالرغم من أن هكذا مخالفة للأوامر عقوبتها الإعدام .. لكن حبشان أصر على موقفه. ليقف معه المسؤول العسكري الذي قبّله من جبينه، على عكس ما أراد المسؤول الحزبي التابع لماكينة السلطة البعثية وقتها.
وعن قصته (الوحش كراز) كتب كريم النجار « تحيلنا هذه القصة الى آلة الدمار – الحرب- هذه الالة الرهيبة التي يصورها الطاهر بماكينة الحفر العملاقة، التي تمردت على سيدها وثرمت كل من صادفها.. انها احالة ذكية ومختزلة لما كان يحدث في العراق. كان الطاهر منشغلا بالبحث عن أولئك الناس الذين استوطنوا ذاكرته مجليا عنهم غبار الزمن والنسيان وناحتا تماثيل لهم تغزو بياض أوراقه لتنتصب بقاماتها في ذاكرتنا ايضا».
بالرغم من ذلك نجد في بعض قصصه طرافة لا تخلو من فكاهة ساخرة مطعمة بحس إنساني تربوي ايضا. مثل قصة (الشوكة) وقصة (الأمر الذي حدث وغير عادتي السيئة) التي يسخر فيها من الكثير من الادعياء الثرثارين. فهذه القصة تعطينا فكرة عن قدرة الكاتب وصبره والدخول في عالم البطل بشكل متقن وبتأني. فكان معروفا عنه الصمت والتأمل والاصغاء بصبر واحتمال حتى للذين (يخوطوا بأحاديث لا معنى لها).