“الصخب والعنف” لوليم فوكنر.. رواية الجنوب الأمريكي

شكيب كاظم

على الرغم من أنه كتب عديد الروايات، وتُرجم منها للعربية (اللصوص)التي نقلتها خالدة سعيد، وصدرت ضمن منشورات مجلة (شعر) اللبنانية، فضلا عن (رجل عجوز) تعريب سمير عزة نصار، و(نور في آب) ترجمة عطا عبد الوهاب، ومراجعة جبرا إبراهيم جبرا، فإن روايته (الصخب والعنف) هي الأشهر والأذيع على مستوى القراءة والنقد، ولقد سئل وليم فولكنر (1897-1962)؛ الحائز على جائزه نوبل للأدب سنة ١٩٥٠، عن أقرب أعماله إلى نفسه، فأجاب رواية (الصخب والعنف).

ولقد قيل الكثير في غموض هذا العمل الروائي المبهر، وصعوبة فك ألغازه، ويبدو أن هذا النوع المُلغِز من الروايات قد شاع في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، ويمكننا الإشارة في هذا الصدد إلى رواية ( يوليسيس) للدبلني جيمس جويس، فضلا عن رواية ( البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، ولقد ظل هذا الرأي المثبط مستحوذا على الذهن، مما يزهد المرء في قراءة عمل روائي ملغز، وهو ما عانيته وأنا أقرأ ( يوليسيس) لكن مصادفة جميلة أن تحظى بمشاهدة فيلم استقاه مخرجه من رواية ( الصخب والعنف)(The sound and fury) مهد السبيل لقراءة ممتعة لهذا العمل الروائي الرائع، الذي صب فيه فوكنر كل إمكاناته الإبداعية، ولقد زاد في تمهيد السبيل؛ المقدمة الضافية الزاهية التي كتبها الأديب الشامل جبرا إبراهيم جبرا- توفي 1994- بين يدي هذا العمل الرائع، معترفا بأنه أفاد من تمهيده هذا من ( مالكلم كاولي) في مقدمته الممتازة لكتاب (The portable fulkner).

فوكنر جعل أبناء أسرة(آل كمبسن) الثلاثة يتولون سرد حوادث هذه الرواية البوليفونية؛ متعددة الأصوات، ولنا منها في أدبنا العربي رواية ( ميرامار) للنوبلي العربي نجيب محفوظ، فضلا عن استخدامه فن الاستذكار والحوار الداخلي، وتيار الوعي الذي يسميه جبرا (سيل الوعي) وهي من الروايات التي تتحدث عن الحياة في الجنوب الأمريكي بداية القرن العشرين وحتى سنة 1928، مع أن فوكنر في تقريره التوضيحي الذي نشره مع الطبعات التالية لروايته هذه، وقد حدس أو بالحري لمس قلة إقبال القراء عليها، بسبب تعدد مستويات السرد، التي تأتي مضطربة متأرجحة ولاسيما في الفصل الأول ، الذي يتولى (بنجامين) سرده، وهو أصغر أبناء ( السيد كمبسن) الذي ولد متخلفا عقليا، يسمع لكن لا يتكلم، ولديه حاسة شم قوية، تجعله يتذكر الحوادث من خلال الروائح، ويظل يبكي، وفي أحسن الأحوال يئن للتعبير عن خلجاته وطلباته، ولعل هذا الفصل الذي يرويه بنجامين من خلال ما يجول في عقله المضطرب، هو الذي لا يتكلم، من أصعب فصول الرواية، وأروعها وابدعها لأنها أظهرت الإمكانات الرائعة لتقمص فوكنر أفكار هذا المعتوه ونوازعه، الذي سيخصى بعد أن يموت أبوه، ويودع مشفى المجانين، بعد أن تموت أمه، يرتكب هذه الموبقات أخوه (جاسن) الذي لا يأبه لشيء في الحياة سوى لكنز المال، من أي طريق جاء!

وإذ نتعرف على الكثير من حياة هذه الأسرة الأمريكية، التي ظلت تحيا على ذكريات مجد غابر في الفصل الأول الذي رواه ( بنجامين)، فإن الصورة لتتوضح أكثر، لدى قراءتنا الفصل الثاني الذي يرويه الابن الأكبر ( كونتن) عائدا إلى سنة 1910، حيث تبيع الأسرة جزءا من أرضها الزراعية، كي تمكن ابنَها ( كونتن) من الدراسة في جامعة هارفرد، لكن حدثا يعصف بحياة الأسرة، إذ تعشق ابنتهم ( كاندس) شابا، وإذ يقضي منها وَطَرَه، يتركها بعد أن زرع في رحمها جنينا، لتتزوج من آخر، فيكتشف زوجها أنها حبلى منذ شهرين فيطلقها، فتدفع هذه الكارثة بشقيقها ( كونتن) لرمي نفسه في النهر منتحرا.

وإذ نواصل القراءة في الفصل الثالث الذي يتولى سرده (جاسن)، الإنسان العملي الخالي من المشاعر والعواطف، والذي لا يحترم شيئا في الدنيا سوى الشرطة بوصفها هي التي تنفذ القانون، الذي ينعى على الأسرة أنها باعت أرضا كي يدرس (كونتن)، وأنفقت أموالا طائلة كي تقيم حفل زواج باذخ لشقيقته (كاندس) وتركوا عبء الأسرة على كاهله وحده، بعد أن مات الأب العايش على مجد الأسرة القديم، والقارئ لكلاسيكيات الأدب والمعاقر الدائم للويسكي.

(جاسن) هذا كان مخادعا مرابياً جافا جافيا، كان يكره هؤلاء الزنوج الخدم في بيت الأسرة، يراهم عبئا مضافا عليه، كان يخدع أمه، التي كانت ابنتها ( كاندس) ترسل باسمها شهرياً مئتي دولار لتصرف على ابنتها، التي جاءت من علاقة سفاح غير شرعية كما أشرت آنفا.

(كاندس) كانت ترسل هذا المبلغ شهريا من مكان إقامتها في باريس، إلى ابنتها التي أطلقوا عليها اسم خالها المنتحر (كونتن) إحياء لذكراه! فكان يخدع أمه بتحرير صك مزور مدخلا في روعها حرمة هذا المبلغ، الذي ترسله ابنتها، التي يصفها دائما بـ(العاهرة)! فمال العاهرة حرام يجب أن يحرق! وانطلت هذه الخديعة على الأم المسكينة الطيبة، المؤمنة بتعاليم السيد المسيح في الصدق والأمانة والمحبة والشرف، فكانت تحرق الصك الذي يزوره ابنها (جاسن)، في حين يحتفظ بالمئتي دولار لنفسه، مخبرا ابنة أخته؛ التي أخذت تشب عن الطوق، وتعيد سيرة أمها، هو الذي يصفها بقوله (عاهرة يوما، عاهرة كل يوم) يخبرها بأن أمها ترسل لها عشرة دولارات شهرياً! وما كانت البنت المراهقة تصدق خالها الكذاب، وينتهي الحال، بأن تتسلل ( كونتن) من نافذة غرفتها، مارة- مصادفة- على غرفة خالها ، متخذة من أغصان الشجرة وسيلة للوصول إلى غرفته، كاسرة زجاج شباكها لتدخل فتعثر- مصادفة أيضاً- على الدرج الذي كان خالها جاسن يحتفظ بالنقود فيه؛ درج منضدته، كاسرة إياه سارقة النقود؛ نقودها، لا بل مستردة أو مستعيدة نقودها التي غصبها خالها، نازلة عن طريق أغصان الأشجار، مولية الأدبار مع عشيقها، وكما انقطعت أخبار أمها من باريس، تلاشت أخبار (كونتن) لتكون لا مسك ختام، بل حنظل ختام هذه الأسرة المسكينة، التي مزقتها حوادث الزمان.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة