عندما تضحك المنارات

سعد عودة

حدث ذلك بعد نهاية العالم بستة أيام، عندما قرر الربّ أن تستمر الحياة بطريقة مغايرة. لكن الحقيقة أن الذي حدث لم يكن نهاية للعالم، بل كان وقتاً مستقطعاً للحياة، عندما بدأت الأمور تجري بطريقة غريبة وغير مفهومة حتى للربّ. أعني هنا هو من قرر أن تكون تلك الأحداث غير مفهومة، وغير مبررة. ولهذا جعل الحياة تستمر في اللحظة التي توقفت بها, تلك اللحظة الغريبة التي صادف بها أن البشر في كل أنحاء الأرض توقفوا عن فعل أيِّ شيء، ومن دون قصد او إرادة. حتى من الرب ذاتهِ, لم يصدر أحدٌ ما صوتا او قام بعمل ما. جميع الناس اكتفوا بالوقوف والنظر الى شيء ما أمامهم من دون أن يحركوا ساكناً. لم تكن اكثر من دقيقة. لكن العالم كلهُ تجمدَ فيها ومن دون مبرر. كل ما في الأمر أن كل نوايا الناس تأجلت لدقيقة واحدة. وهذه الدقيقة كانت كافية ليقرر الربَ تأجيل الحياة لوقتٍ اخر. الوحيد الذي شذَّ عن القاعدة هو كنوش المجنون، الذي كان يجلس قبالة جامع المدينة الكبير. جلس صامتاً لساعات وهو يصارع ذلك الشعور المزعج بالجوع الذي شغل كل حواسهِ، فهو لم يضع لقمة في بطنهِ منذ يومين، واكتفى بشربة ماء من الصنبور القريب من محل بيع الخبز. كانت شفتاه مبللتان وهو ينظر الى الرغيف الحار الذي يخرج من التنور الطيني قبل أن يستقر على منضدة العرض. فكر للحظة أن يطلب رغيفاً من صاحب الفرن لكنهُ عدلَ عن الفكرة عندما تفرسَ بملامح صاحب الفرن الحادة ووجهه العابس. كان من الواضح أنهُ سيطردهُ، دون أن يمنحهُ ولو قطعة صغيرة من الخبز. وهذا دعاه الى التفكير بسرقة الرغيف والهرب الى مكان آمن، لكن هذه الفكرة بدت غير ممكنة أيضا بعد ان نظرَ الى الشباب الذين يعملون في الفرن والذين سيلحقون بهِ وربما يوسعونهُ ركلاً وضرباً. تخيلَ نفسهُ مُمداً في الشارع وهو يتلوى من الألم الذي سببهُ هذا الضرب المبرّح وهذا جعلهُ يغادر الفرن من دون أن يفعل شيئا، رغم أنهُ ندم بعد، فشعور الجوع الذي شعر به طوال الوقت كان أكثر قسوةً من أيِّ شعور آخر. وهذا جعلهُ يجلس قبالة الجامع الكبير وينظر الى قبتهِ المزينة بالأحجار الكريمة، ومناراتهِ المغلفة بالطابوق الملون. الجوع صديق حقيقي للصمت. هذا ما أدركهُ فالبطون المتخمة هي التي تجعل أصحابها يتكلمون كثيرا، أما البطون الفارغة فتشل الألسنة وتجمد الحبال الصوتية، فيتراكم الكلام كلهُ في الداخل، لينطلق في لحظة واحدة. هذا ما حصل لكنوش. ففي اللحظة التي اطلقت سماعات الجامع صوت الآذان وقف كنوش وصرخ بأعلى صوتهِ…

ـ أرجوك لا تؤذن

ـ أخاف ان تسقط المنارات من الضحك..

كان صوتهُ في تلك اللحظة قد غطى على صوت الآذان المنطلق من مكبرات الصوت التي تصل مدياتها الى مسافات واسعة من سماء المدينة ومن جميع الاتجاهات….

لم يفهم ما الذي دعاهُ لقول ذلك. بالنهاية فهو مجرد مجنون، وليس على المجنون حرج فيما يقول. كما أنهُ من غير المنطقي أن يؤخذ كلامه على محمل الجد. رغم ذلك فالربّ قرر تأجيل الحياة لستة ايام كاملة قبل ان يعيدها الى طبيعتها. هل حقا ما قاله كنوش المجنون هو من تسبب في تأجيل الحياة بهذه الطريقة؟  لا أحد يمكن أن يقول ذلك. حتى اذا كان هذا ما حدث بالفعل. فالمنارات لم تسقط، لأن صوت الآذان توقف فجأة، تاركاً جموداً هائلاً واجساداً متكلسة لستة ايام كاملة. في اليوم السابع عادت الحياة الى طبيعتها وكأن شيئا لم يكن. فالحقيقة أن الزمن لم يتوقف، مادام لا أحد يتذكر.  في ذلك اليوم كانت الحديقة الصغيرة خالية من الناس إلا من رجل في منتصف الاربعينيات من عمره، يرتدي دشداشة بيضاء قماشها من النوع الفاخر, كان يضع على رأسهِ قبعة بيضاء صغيرة من النوع الذي يقوم الحجاج. صوت المؤذن غطى السماء والارض مرةً أخرى عندما دلفَ الرجل الى الجامع وتوضأ ووقف في الصف الامامي خلف الشيخ مباشرةً. بعد أن انتهت الصلاة التفتَ ليسلم على الرجل الذي على يسارهِ فشعرَ للحظة إنه يعرفهُ, ربما رآه في مكان ما وهذا جعلهُ يبتسم بوجههِ قبل ان يقف ويغادر الجامع.

هناك وقف محاولا استعادة ذاكرتهُ، ففي تلك اللحظة أدرك أنه لا يعرف شيئا عنهُ، وكأن شيئا مسحَ ذاكرتهُ كلها. وجعلهُ يلتفت يمينا ويسارا ولا يعرف الى أين يذهب. حاولَ ان يتذكر أيَّ شيء لكن دون جدوى، وكأن حياتهُ ابتدأت هنا داخل هذه الحديقة الصغيرة. في الوقت الذي أطلق فيه الجامع صوت الآذان وهذا جعلهُ يسير بهدوء في الشوارع القريبة من الجامع. وقف عند محل بيع الخبز فراودهُ شعور بالجوع, هو لا يتذكر كم مر من الوقت دون ان يضع طعاماً في بطنهِ لكنهُ يستطيع ان يدرك الان انهُ وقت طويل لهذا معدتهُ بدأت تتقلص وامعائهُ بدأت تصدر اصوات غريبة. التفتَ الى صاحب الفرن وكان ذات الرجل الذي كان يجلس بقربهِ في الجامع وهذا جعلهُ يرفع يدهُ مسلما على الرجل فما كان من الرجل إلا ان تركَ مكانهُ ورحبَ فيه بصورة بدت مبالغ فيها, هذا كان سيئا بالفعل, فحفاوة الترحيب ستمنعهُ من أن يطلب من الرجل صاحب الوجه العابس رغيفاً من الخبز. مكانتهُ ولباسهُ الذي يرتديه ستجعل الامر سخيفا ومخجلاً بشكل كبير. لهذا اكتفى بشربة ماء قبل ان يغادر الفرن. ذهب الى الحديقة المقابلة للجامع وجلس هناك. كان يحاول أن يقاوم هذا الشعور المزعج. رغم أن افكاراً كثيرة مرت برأسهِ،  لكن كلها لن تمنحهُ طريقة يستطيع معها أن يسد جوعهُ، دون أن يقلل من هيبتهِ المصطنعة أمام الاخرين. لم يكن مستعداً للتنازل عن الكاريزما التي منحتهُ إياه هذه الملابس والتي جعلت المصلين يضعونهُ في الصف الاول خلف الشيخ مباشرة رغم أن الجوع بدأ يحفر داخلهُ وجعاً يحتل خلاياه كلها الواحدة تلو الاخرى….

وقف بصعوبة، وحاول أن يمشي باتجاه الجامع فشعرَ بوجع غريب في رأسهِ. وبدت قدماه عاجزتان عن الاستمرار في الحركة. أما عيناه فغرقتا في سراب تحولت معه الاشياء الى تكوينات غير مفهومة, حاول ان يسحب نفساً عميقاً من الهواء فرفضت رئتاه ذلك فشعر أنه يفقد القدرة على الحياة …

في تلك اللحظة اطلقت مكبرات الصوت في الجامع صوت الآذان وهذا جعلهُ يستغل آخر ما يحملهُ جسدهُ من طاقة ويقف قبالة الجامع ويصرخ بأعلى صوتهِ:

ـ أرجوك…لا تؤذن…..

بعدها سقط على الارض. عندها كان كنوش المجنون يرقد داخلهُ مبتسماً. فهو الوحيد الذي يعرف أن نهاية العالم قد حلت قبل ستة ايام.                      

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة