فاضل ثامر
لقد نجح الروائي، من خلال انموذج فردي صغير من فضح وإدانة نظام دكتاتوري شمولي هو نظام البعث في العراق، بوصفه نظيراً للنظام الشمولي الذي وصفه جورج أوريل في روايته المعروفة (1984 ) والتي كتبها أصلاً عام 1948 ونشرت عام 1949 والتي أدانت ايضاً الأنظمة الشمولية التي تحدّ من حرية الانسان، من خلال افتراض صعود نظام شمولي قامع في بريطانيا تحت إسم (اوشينيا) أو (أوقيانيا)عام 1984 يهيمن على مقدراته الأخ الاكبر Big Brothe الذي يراقب الجميع من خلال سلسلة من كاميرات المراقبة والرصد ويحصي على الناس أنفاسهم.
بالتأكيد ثمة تماثلات واختلافات بين “اعجام” سنان أنطون و”1984 ” لجورج أورويل، ذلك إن رواية سنان، تكاد أن تنهض على تجربة واقعية ملموسة هي تجربة نظام حكم صدام حسين الشمولي، بينما تنهض رواية جورج اوريل على تخيل نظام افتراضي يمكن أن ينشأ في بريطانيا يصادر حرية الأفراد والجماعات لصالح ادارة بيروقراطية ونظام شمولي – توتاليتاري- قامع. وبالتأكيد أفاد سنان انطون من الاطار العام لرواية أوريل التي تنتمي أي مايسمى بالدايستوبيا Dystopia ، التي سنأتي على ذكرها. كما أن فكرة إلغاء جميع القواميس والمعاجم اللغوية والاصطلاحية التي بشر بها بيان وزارة الداخلية من أجل ايجاد قاموس موحد لاستعادة ” زمام المعنى الواحد الذي حاولت زمرة من الأوباش والغوغاء اغتصابه” (ص 101 ) متوافرة في رواية أوريل، وهدد البيان بإيقاع عقوبة الاعدام بحق كل من تسوّل له نفسه نشر الغموض والابهام أو تعاطيهما، والمس بوضوح المعنى ” كما ستتم محاكمة من يقترف جريمة التفسير بصورة انفرادية وخارج إطار لجان التحقيق الرسمي ” (ص 102 )
وصيغة القاموس الموحد، من الأفكار المركزية في رواية جورج أوريل حيث يصدر قرار بإلغاء واتلاف جميع القواميس المتداولة ووضع قاموس موحد للمفردات والمعاني وضعته لجنة حزبية متخصصة والزمت به جميع المواطنين والمؤسسات الالتزام به وعدم الخروج عنه، لتجنب اية عقوبة لمن يخالف ذلك.
وفي الجهة الأخرى تقابل صور (الاخ الاكبر) المنتشرة في كل مكان صور صدام حسين الموزعة بقصدية في الساحات العامة والمكاتب والدوائر الحكومية، وحتى في غرف النوم، وترمز الصورة في الروايتين الى نظام القائد الواحد وعبادة الفرد الذي يراقب الجميع ويتحكم بمصائرهم .
ومثلما وجدنا أن ( فرات) ،وهو اسم بطل رواية “إعجام” مجرد طالب جامعي دونما خلفيات سياسية أو ارتباطات تنظيمية معادية للنظام الشمولي الصدامي، لكنه يعامل كمشتبه به، ويخضع لسلسلة من الاستجوابات والاهانات وعمليات الاغتصاب الجنسي، وتنتهي باختفائه تماماً . كذلك نجد أن بطل رواية “1984 ” (ونستن سمث) موظف عادي في قسم الوثائق التاريخية في ” وزارة الحقيقة”، لكنه أخذ يكتشف تدريجياً مظاهر التعسف والاستلاب التي يتعرض لها الفرد، فراح يفكر في التمرد والثورة، مما عرضه الى سلسلة رهيبة من عمليات الاستجواب والتعذيب، والتي تنتهي بتوجيه أحد الحراس إطلاقة مفاجئة على رأسه انهت حياته الى الابد.
ويشترك بطلا الروايتين (فرات)و ( ونستن سمث) في عملية الكتابة، فقد دفع المحقق (أحمد) رزمة من الأوراق لفرات ليكتب فيها، بينما اشترى (ونستن سمث) دفتراً لكتابة مذكراته ويومياته فيه.
لست اريد هنا أن أقدم دراسة نقدية مقارنة للروايتين، ولا اتهم سنان انطون بأنه اعتمد كثيراً على أجواء جورج اوريل، دونما مبرر أو إشارة لذلك، فقد وجدنا إشارة صريحة الى رغبة بطل الرواية (فرات) لكتابة تقرير جامعي عن جورج أوريل وروايتيه حديقة الحيوانات و”1984 ” لكنه واجه معارضة تحذيرية من زميلته (أريج) ورفض رسمي من المشرف على البحث، وأمينة المكتبة التي رفضت اعارت الروايتين لانهما ممنوعتان:
” كنت قد قرأت “مزرعة الحيوانات” قبل شهرين بالإضافة الى مقالة عن “1984 ” وجدتها في كتاب استعرته من مكتبة القسم. كنت أنوي قراءة الرواية، وطرأ لي أن أكتب بحثي عن العلاقة بين السلطة واللغة فيها” (ص54 )
ولذا، يمكن القول، أن الروائي سنان انطون، قد تعامل بطريقة واعية ومسؤولية مع رواية جورج اوريل، ليس عن طريق التقليد، وانما عن طريق الانتماء الى هذا الاتجاه الروائي الذي كان يكشف عن محنة الانسان في ظل الانظمة الشمولية والدكتاتورية، نظراً للتماثل الكبير بين النظامين السياسيين في الروايتين، حتى لتبدو رواية أوريل بمثابة نص غائب أو مواز لرواية “اعجام” لسنان انطون، وعمله الواعي هذا شبيه، الى درجة كبيرة بما فعله الروائي أحمد سعداوي في كتابته لرواية”فرانكشتاين في بغداد”. وهذا الاتجاه الروائي الذي أعنيه هو الديستوبيا Dystopia ، وهو مصطلح جديد معاكس لمصطلح يوتوبيا Utopia الشائع بين القراء الذي يترجم عادةً بــ ” المدينة الفاضلة” .ويذهب البعض الى أن افلاطون إستخدمه، لكن المؤكد إن رواية “يوتوبيا” للكاتب الانجليزي توماس مور هي التي اشاعت المصطلح، وكانت تتحدث فيه عن حلم الانسان لإيجاد عالم مثالي يعيش فيه الانسان بحرية وعدالة. أما مصطلح ديستوبيا فهو نقيض اليوتوبيا، ويكشف عن حالة من الاستلاب الانساني نتيجة القمع والعنف وهيمنة الانظمة الشمولية، مما دفع بالكتاب الى افتراض وجود مدينة للشر والعنف والاضطهاد والتي تستباح بها حرية الفرد، من خلال معاينة حالات واقعية معينة في المحيط الانساني أو افتراض مدينة خيالية تتوافر فيها هذه العناصر وقد تتحول مثل هذه الروايات الى لون من رواية الخيال العلمي Sciehe Fictim . واذا ما فحصنا النتاج الروائي العالمي والعربي والعراقي لوجدنا العشرات من النماذج التي يمكن تصنيفها بوصفها روايات (ديستوبيا).
ومن هنا نجد أن اللقاء بين رواية “إعجام” لسنان انطون، ورواية “1984” لجورج أوريل هو لقاء واع ومدروس على مستوى الانتماء الى عالم “الديستوبيا”، والفارق الأساس هو أن رواية أوريل تبتكر من العدم عالماً ديستوبياً تسود فيه سلطة “الاخ الاكبر” والحزب والنظام الشمولي، بينما رواية “اعجام” لسنان انطون تفحص عالماً واقعياً وحقيقاً هو عالم الدكتاتور الفرد صدام حسين ونظامه الشمولي، والذي تكتشف فيه الكثير من خصائص الديستوبيا الروائية، ولم يفعل الروائي شيئاً كثيراً، سوى التقاط بعض هذه العينات ووضعها أحياناً تحت المجهر لتكبيرها، وتعريضها لعدسة السخرية السياسية، واحياناً الكوميديا السوداء للحط من جبروت النظام الشمولي ورموزه الدكتاتورية الفردية، وتمكين الفرد من مواجهة ذلك.
رواية ” إعجام” رواية شجاعة وواعية ومسؤولة واشتغلت بجرأة على تعرية وادانة مرحلة مظلمة في تاريخ العراق، هي مرحلة النظام الشمولي الصدامي، بل وتنبأت بسقوطه مع انها طبعت لأول مرة عام 2002 من قبل دار الآداب، أي قبل سقوط النظام بأكثر من عام. ومن الجانب الآخر فقد كتبت بفنية عالية، ولم تترك مجالاً لتدخل الروائي الخارجي، لأن السرد بشكل عام، كان مبأراً، ويتحرك من منظور الشخصية الروائية الرئيسة في شكل مونولوغات داخلية أو استذكارات ومشاهدات أو من خلال تقديم بنية المشهد الروائي، والحركة الدرامية الداخلية للفعل الروائي.