تصلب الشرايين!

محمد زكي ابراهيم

من أكثر أعراض الشيخوخة شيوعاً، المرض المعروف بتصلب الشرايين، الناتج عن ترسب الدهون والأملاح في الأوعية الدموية الكبيرة. وبمرور الوقت تتحول هذه الترسبات إلى مواد صلبة، تقوم بتضييق مجرى الدم، أو إغلاقه بالكامل.

 وإذا ما شاء المرء أن يتقي شر هذا التصلب، فعليه أن يقتصد في طعامه، ويضاعف من حركته. لأنه يزداد بالأكل المفرط والخمول الزائد.

ويبدو أن التصلب ظاهرة عامة لا تصيب الجسم البشري فحسب. بل تتعداه إلى العقول والأفكار والأرواح. ولا علاج لها سوى التدخل الجراحي،  الذي يصل أحياناً إلى حد البتر.

ومن أكثر أنواع تصلب الشريان إيذاء ذلك الذي يصيب الثقافة، ويحول دون سريان نسغ الحياة فيها. وهو إذا ما حدث في بلد ما، فسيؤدي به لا محالة إلى الاصفرار والذبول، وقد ينتهي إلى أن يصبح لقمة سائغة للثقافات الأخرى، إذا لم يتعرض للانقراض أو الموت.

ومثلما تؤدي كثرة الدهون إلى تصلب شرايين الجسم، وانحباس الدم عنها، فإن كثرة الإنتاج الثقافي، الذي يعبر عنه تارة بالغث، وتارة أخرى بالسمين، تقوم بالدور ذاته.

إن نظريتي الكم والنوع، اللتين تحكمان العمل الفني، وتعبران عن وجهتي نظر متناقضتين، هما اللتان تهيمنان على الساحة. ولكل منهما مؤيدون وأنصار. ثمة من يرى أن الإنتاج الغزير يخرج منه قليل جيد، وتشجيع النخبة على بذل الجهد يدفع بها نحو التطور، حتى لو كان ذلك بشكل بطئ. أما نظرية النوع فلا تسمح إلا بظهور العمل الناضج. وهي محكومة بجملة من المعايير التي تؤدي إلى تقييد حرية الفنان، لكنها تحمله على الحرص والتأني.

 كان العمل الفني في العراق قبل نصف قرن أو يزيد خاضعاً لضوابط كثيرة، غير قابلة للنقض. ولم يكن من السهل المجازفة به قبل اكتمال الأدوات، أو الإمساك بزمام المهنة. سواء كان ذلك في الأدب أو الشعر، أو المسرح أو الموسيقى، أو الإعلام أو السياسة، أو غيرها.  فحصلنا على نماذج جيدة بحسب معايير تلك الأيام. رغم أن هناك استثناءات قليلة جرت في عقد التسعينات مثل المسرح التجاري.

غير أن ما حدث مؤخراً، هو رواج نظرية الكم التي لا تشترط النوعية. وبات الإنتاج الغزير سمة من سمات الثقافة العراقية. مثلما أضحى الهبوط علامة فارقة عليها، وسبب ذلك تغير نمط الحياة، وسهولة النشر، وانتهاء دور الرقابة. ومن الغريب أن جل هذا الإنتاج يحاكي ما يصدر في الغرب، الذي لم تتوقف حركته العقلية يوماً عن العطاء. حتى لو كانت هذه الحركة أدمنت النظر نحو الأسفل، أي المادة، وأحجمت عن التطلع إلى الأعلى، أي الروح.

لقد أصابت الوفرة شرايين الثقافة لدينا بالتصلب، وباتت تنذر بالشلل، أو الموت. وهذا ما لا يقبل به عاقل. ولا بد أن تتدخل جهات عليا لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، ومعالجة الخلل قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة