لم يكن من السهل علي، رغم ما تجشمته من عناء، وما توفرت عليه من صبر، أن أقرأ رواية عربية صدرت لأول مرة عام 1865 في حلب باسم «غابة الحق» لمؤلفها فرنسيس فتح الله المراش. واضطررت لقضاء وقت طويل، أقبل عليها حيناً، وألقي بها حيناً آخر، حتى قيض لي أن أنتهي منها، بعد جهد جهيد.
هذا العمل الأدبي الذي مايزال حتى هذه اللحظة أول رواية عربية في العصر الحديث هو نموذج لكتب التراث التي أدار لها الجيل الجديد ظهره، لسبب بسيط هو قلة ما فيها من حوادث وكثرة ما فيها من سجالات. بل إنها توشك أن تكون عملاً فلسفياً صيغ بقالب روائي ثقيل على طريقة الأقدمين. وقد كرست للتبشير بمبادئ الثورة الفرنسية، ونظرية العقد الاجتماعي، في وقت كانت الدولة العثمانية تمر فيه بأحرج أوضاعها على الإطلاق.
لقد سقت هذا النموذج التراثي الذي لا يبعد عن عصرنا أكثر من قرن ونصف للتدليل على أن التراث العربي القديم سيبقى حبيس المكتبات الكبرى، لا تصل إليه يد، ولا تقلبه كف، إلا أن تكونا لباحث أو دارس أو مؤرخ أدب.
إن الحل الوحيد الذي يخرج هذا التراث من العزلة ويضعه في متناول الأيدي، هو إصدار طبعات ميسرة له، على غرار تلك التي صدرت للأعمال العالمية الشهيرة، ومن أبرزها روايات شكسبير. فهي التي مكنت القارئ من الاطلاع عليها بعد أن تعذر ذلك عليه. عدا عن أن هذه النصوص اختصرت أو مثلت على خشبة المسرح أو حولت إلى أشرطة سينمائية في العديد من دول العالم. فضمنت بذلك لصاحبها الذيوع والانتشار.
إن الكثير من مطولات التراث العربي يمكن أن يعود إلى الواجهة من جديد، إذا صدر في طبعات مختصرة، أو نقل إلى لغة معاصرة. ولن يضيره هذا، بل سيجعله متداولاً ومعروفاً. ولو أن رواية المراش آنفة الذكر، التي وزعت طبعتها الأخيرة في مستهل القرن الحادي والعشرين في سلسلة الكتاب للجميع المجانية، قد خضعت لهذه العملية لكان ذلك أدعى إلى النفع العام. فهي رواية تنويرية بالدرجة الأولى. وغايتها نشر الوعي والتسامح في مجتمع منغلق، وفي دولة باتت في حينه أقرب ما تكون للتفسخ والانهيار.
إن تيسير مثل هذا العمل الأدبي يحتاج إلى جهد كبير، إلا أنه سيكون ذا مردود عظيم. ذلك أن الدواعي التي جعلت المراش يقدم على تأليف روايته هذه مازالت قائمة وحاضرة. ولم يجر عليها إلا القليل من التطوير. وهناك الكثير من الأعمال الأدبية والنقدية التي كتبت في القرون الإسلامية الأولى تنتظر مثل هذا الفعل، حتى تعم فائدتها، ويعظم دورها. فالتراث ليس أعمالاً فارغة المضمون مثلما يتصور البعض. بل إن أثره أعظم من أن يعد، ومهمته أجل من أن تذكر، وفضله أكبر من أن يتجاهله إنسان.
محمد زكي ابراهيم