أنا أدرك أن اللغة تتطور باستمرار، وترق يوماً بعد يوم. وتتعرض لموجات من التحديث والتغيير والحذف والإضافة بمرور السنين.
لكنني أؤمن أن هذا التحول إذا لم يرتفع بها درجة إلى الأعلى، فسيكون خاتمة غير سعيدة لنشاطها الثقافي. وقد يفضي بها ذلك إلى الانقراض. فالثقافة هي التي تميز الناس عن بعضهم، وهي التي تصنفهم إلى شعوب شتى. ومازالت بعض السلالات تتوالد باستمرار، لكنها اختفت بفقدانها لغتها الخاصة. والعربية ليست استثناءً من هذا. فقد أصابها ما أصاب سواها من تهذيب، وطرأ عليها ما طرأ على غيرها من تعديل. وهناك آلاف الكلمات والاشتقاقات التي لم يعد يلم بها إلا أصحاب المعاجم وعلماء اللغة، بعد أن سقطت من الألسنة.
بل أن ما بقي من الشعر الجاهلي هو الجزء الذي أمكن للذاكرة الشعبية في العصور الإسلامية الأولى أن تلم به. فالغريب أسقطته الذاكرة ودخل خانة النسيان. أما ما بقي فهو السهل المستساغ. وقيل أن الأصمعي (121 – 216 هـ) كان يحفظ عشرة آلاف أرجوزة من أراجيز العرب، التقطها من البوادي النائية، لكن ما بقي منها شئ يسير. وما ذاك إلا لأنها لم تلائم ذائقة المجتمع في تلك الأيام.
إن اللغة لا تسير على هوى الناس، ولا تتغير طبقاً لأمزجتهم. فهناك علاقات تربط بين كل كلمة وإشارة وحرف فيها. وهناك إضافات تهبط بها إلى الحضيض، أو ترتفع بها إلى عنان السماء.
ومن ذاك ما حدث لي، حينما كنت ما أزال موظفاً في أحد المواقع النفطية. حينما فاجأني عامل الشاي ذات يوم، قائلاً «تفضل الشاي ضلعي»!
وبسبب فارق السن، والاعتبارات الوظيفية، شعرت بالامتعاض، ونصحته بعدم استخدام هذه المفردة مع من هم أكبر منه سناً. فما كان منه إلا أن أصر على مقولته، زاعماً أنني مازلت في عز الشباب! وأعترف أنني شعرت بشئ من الراحة حينها، وقررت تناسي الموضوع بعد أن رضيت مرغماً بالهزيمة!
وقد قرأت ما يشبه هذا لأحد كبار أساتذة العربية في مصر وهو الدكتور محمود الطناحي (ت 1999)، حينما كلف تلميذاً له بمهمة ما، فما كان من الطالب إلا أن رد عليه بابتهاج : حاضر يا عسل! فقال له بنوع من الحدة: عيب يا بني، هذا الوصف لا يجوز. فأجاب الطالب أنه سمعه من فلان وفلان وفلان، وأتى بأسماء كبيرة. فلم يكن أمام الطناحي سوى القول: خلاص يا حلاوة.. براءة!
مثل هذه المفردات الحميمة ليست سيئة بالطبع. لكنها تستفز المشاعر قطعاً. وقد دهش رحالة بريطاني حينما وجد أفراداً من البدو يخاطبون ملكاً باسمه المجرد، وعد ذلك نوعاً من الإلفة التي لا توجد في أي مكان آخر. فالملك هو ابن الإله في العصور القديمة وهو صاحب الجلالة في هذا العصر.
ألم يقل البعض أن اللغة تتحكم بعلاقات الإنسان الاجتماعية، وأن العالم في الأصل مبني على أساس عادات الناس اللغوية؟
محمد زكي ابراهيم