القراءة فعلا كشفيا عند علي حرب

القسم الثاني

د. سامر فاضل الأسدي*

  1. وإلى ذلك تذهب قراءة(سعد الله ونوس) في مسرحية(مُنمنمات تاريخية) التي رآها(حرب) قراءة إيديولوجية كاريكاتورية هزلية، مسخت النص الخلدوني( )، معتمدا قراءة طوّقت دلالة النص، مستفيدا مما تبتغيه إيديولوجيته، الأمر الذي جعل(حرب) يراها قراءة نخبوية جاءت نتيجةً لسبب المتغيرات المفهومية الحاصلة في العالم، فهي وهم من أوهام النخبة التي تؤمن بالوثوقية( )، التي تُعطي تفسيرا معاصرا للحقيقة والمعنى.
  2. القراءة التاريخية: وتمثلها قراءة (نصر حامد أبو زيد) للنص القرآني، الذي اعتمد على تاريخيته، ساعيا إلى تقويضه بوصفه وحيا مفارقا موجودا منذ القدم، مقدما مفهوما آخر عنه، كونه نصا لغويا تشكّل بفعل الواقع والأحداث والنظام الثقافي السائد. يقول محددا له: «إن النص في حقيقته وجوهره مُنتج ثقافي. والمقصود بذلك أنه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما. وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومُتفقا عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية، ويعكّر من ثمّ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص»( ). فالعلاقة بين النص والواقع، هي بوابة فهم النص- بحسب(أبو زيد)- وأي تحليل لا يُقيم هذه العلاقة لا جدوى منه، ومن هنا رفض(حرب) هذه القراءة؛ لأنه يرى العكس تماما، فعلى قراءة النص أن تُعيد الترتيب بين النص والواقع تبعا لتحوّل العلاقة بين الدال والمدلول( ). وبهذا يكتسب النص استقلاليته بإزاء الواقع من جهة، ومُبدعه من جهة أخرى، وهذا ما يُكسب النص سياقه الأنطولوجي، والقراءة فعلها الاكتشافي.
    وقراءة(أبو زيد) مُنتهى التلفيق؛ لأنه من جهةٍ يؤمن بالوجود الميتافيزيقي للنص، فيبتعد عن الفهم العلمي له، ومن جهة ثانية، يؤمن بأن الإيمان بمصدره الإلهي لا يحجب تحليله وفهمه، والجمع بين إلوهية النص ودلالته البشرية أمر تلفيقي محض( ). ولهذا فقراءة(أبو زيد) قراءة تتكئ على النص الأصلي، مُعتمدة على الواقع والنظام المعرفي السائد، الأمر الذي يجعلها قراءة ملتزمة بتفسير النص بحسب السياق التاريخي، ولا وجود للفعل التوليدي.
  3. القراءة(الشخصانية): يمثلها(حسن حنفي) في قراءته للآخر/ الغرب، في حين أن القراءة عند(حرب) تنفتح على الآخر، ويعبّر عن ذلك عندما يرى أن الآخر هو من أيقظنا، وفتح باب النقد الذاتي ونقده، هو من جعلنا نقرأ النصوص على وفق قراءة كشفية تداولية. يقول: «وإذا كنّا نحتاج إلى إخراج الثعبان من تحت القميص، فإننا نحتاج في الوقت نفسه إلى أن نتشبّه به ونتعلّم منه، بحيث نُغيّر جلدنا تماما كما يُغيّر الثعبان جلده […] وهذا التغيير يحدث عند التخلّي عن قراءة التراث قراءة جوهرية ثبوتية تراتبية ميتة، لكي نقرأه قراءة عصرية حيّة فعّالة نقوم خلالها بتفكيك بنى الثقافة العربية واستكشاف أصولها ومكوناتها، من أجل إعادة تركيبها وتحديثها»( ). ومن ثم يكون النص التراثي قد أجاب على كثير من الأسئلة المستعصية في الخطاب العربي، وحقق لنا الفائدة والغاية.

ضرورة معرفة الواقع
ونتيجةً للقراءة(الشخصانية) التي اتّبعها(حسن حنفي)، نراه يُشدّد على ضرورة معرفة الواقع الذي نشأت في ظلّه النصوص؛ لأنها تساعده في شرح تكوينه، بمعنى أن التاريخ يُعرف من خلال النص، وليس النص من خلال التاريخ. يقول: «التاريخ يكشف نفسه من خلال النص، والنص مرآةٌ له. ليس النص من صنع التاريخ ومجرد انعكاس له. النص هو الذي يحدّد التاريخ ويفرض نفسه عليه، وليس التاريخ هو الذي يحدد النص ويكوّن بنيته. النص له استقلاله الذاتي عن التاريخ، والتاريخ مجرّد حامل له. النص مستقل عن التاريخ ويظهر فيه التاريخ، يقدم النص ثم يبتعد عنه»( ). وعيب هذه القراءة هو في كون التاريخ مُكتشف من خلال النص، ما يجعلها قراءة تنطوي في أحيانٍ كثيرة على بُعد شخصي ورؤية ربما تكون ضيّقة.

  1. القراءة المرآوية: وتمثلها قراءة(عبد العزيز حمودة) النقدية، وهي قراءة لا تفيد- بحسب حرب- المعرفة بشيء؛ لأنها تطابقية، تحاول اختزال النص، وتكرر كل ما هو معلوم من المفهومات النقدية الشائعة للخطاب النقدي، كما أنها تُصادر المفهومات من مرجعياتها الأصلية، وهذا ما يُساوي بين جهود القدامى والمُحدثين معرفيا( ). وهذا غير مقبول؛ لأن المرايا تُحوّر وتختزل وتُكبّر، الأمر الذي جعل(حمودة) ينكر ما ابتكره النقاد الحداثويون من مفاهيم وأدوات، وجعلهم متطابقين.
    في حين أن عمل الناقد هو القراءة الاستثمارية للمفاهيم والأدوات، بغضّ النظر عن انتماءاتها؛ لأن المعرفة بطبيعتها قراءة لا صورة، بمعنى أن القراءة فعل توليدي للمعاني، ومحوّل للدلالات، ولا نبحث عنها في ضمن نظرية الانعكاس؛ لأن النص بطبيعته ينماز بالخدع الأنطولوجية التي تتمثّل في عجز الخطاب عن التطابق مع ما يريد الإفصاح عنه، أو في كون ما ينطق به المتكلم لا يتضمّن مقصده، أو هو أقل أو أكثر مما يود الإعراب عنه( )؛ ذلك أن القراءة المطابقة تقودنا إلى منطق المطابقة الذي يعمل على تحويل النص إلى وعاء حاضن للأفكار السطحية.

الفعل القرائي والنص القديم

  1. القراءة التمجيدية: وتمثلها قراءة(أبو يعرب المرزوقي) للنص الخلدوني بوصفه نصا يحتوي على كل الحلول الناجعة لقضايا العصر الراهن، وما علينا إلاّ الانكباب عليه. وهذا ما يُخالف فعل القراءة، فـ(حرب) إذ يرفض مثل هذه القراءة، لا يرفضها اعتراضا على النص، بل اعتراضا على الفعل القرائي الذي حوّل النص القديم إلى نص جامد مكرر كما هو الماضي في العصر الحديث. في حين أن الفعل القرائي يقتضي تفعيل التعددية، عن طريق تفكيك أنساق النص، ومن ثمّ، اكتشاف ما حجبه النص وتجاوز «منطوق الخطاب إلى ما يسكت عنه ولا يقوله، على ما يستبعده ويتناساه»( ). فالظاهر من الخطاب معنى قاصر من معاني عالم النص، وتلزمه مثل هذه القراءة كي تكشف الدلالات المُستترة، في حين أن المعنى المُستتر موجود في الأصل، وغُيّب عن فعل قصد من قبل الأنظمة المعرفية التي أنتجت الخطاب وغذّت مثل هذه القراءات. ولعلّ هذا ما يُفسّر لنا مراوحة(علي حرب) ما بين التفكيك والتداولية، فهو إذ يقرّ بأهمية الآلية التفكيكية من حيث فعلها القرائي المتعدد الدلالة، يطمح في الوقت نفسه على الإمساك بالمعنى الراهن كما هو في التداولية.

فعل الخلق أكثر أهمية مما نخلق
ومن هنا، فإن هذه القراءات غير خالقة للنصوص؛ لأنها- بحسب حرب- تمارس فعل الخداع القرائي على المستوى المعرفي، فهي تمارس الاستبداد السياسي والفكري والديني( )، كما أنها تعمل على إقصاء كل ما هو متعارض أو أصل، الذي هو من فعل القراءة الكشفية، ولهذا فعلينا أن «نكتب ونقرأ لا بروح التوكيد على النتاج بحد ذاته، بل روح التوكيد على فعل الخلق، ففعل الخلق أكثر أهمية مما نخلق»( ). وهذا يعني ارتباط فعل القراءة بالتحوّل المستمر للنص، ويصبح أفقا من النصوص، الأمر الذي يساوي بين الذات القارئة والذات المُبدعة، فيكون فعل القراءة ذاتا خالقة للنص، بوصفه فعلا استحضر ما غاب من الدلالات واكتشفها. وبهذا يكون(حرب) قد أعلن عن ميلاد مرتكزات قرائية مؤهّلة لأن تكشف الدلالات في مختلف المتون.
ولكن ما الفعل القرائي الذي يلتزمه(حرب)، ويناضل من أجله في معاركه النقدية المعارضة لمختلف القراءات السائدة؟

  • قراءة الكشف والخلق: رأينا اختلاف القراءة عند النقاد القرّاء، تبعا للمنهج والفكر والظروف وتطور المفهوم ذاته، وهي بمجملها قراءات لم تستطع أن تكشف دلالات النص الباطنية وتنتجها، وإنما اعتمدت على انتقاء الدلالة المقصودة بدافعها التصنيفي. ولهذا فهي قراءات حبست الدلالات الأخر في النص، لتعزّز النظام المقيَّد باتجاه فهمه وتفسيره.
    ولهذا أخذ مفهوم القراءة عند(علي حرب) بُعدا نقديا في نقد النقد، وجعله واسع المهام والدلالة؛ لأنه يتصدّر مفردات الخطاب المتعلّقة بالفهم والتشخيص، وبذلك تكون قراءته لازمة في فهمنا لأي نص، بل إن نقد النقد لا ينهض إلاّ بها، فهو مرهون باستراتيجيتها، ويعتمد عليها في تطوّر أدواته ومفاهيمه وذاته.
    وقبل تحديدها اصطلاحيا عند(حرب) لا بُدّ من التساؤل حول مفهومها معجميا، لما له من صلة نقدية مهمة بين الدلالتين، الأمر الذي تتميّز به قراءة(حرب) عن القراءات السائدة؛ لأنهم انطلقوا من النص إلى القراءة، أي النص يُحدّد فعل قراءتهم المتّبعة، أما(حرب)- كما سيتبيّن- ينطلق من فعل القراءة إلى النص، ليحوّلها إلى عملية توليدية خصبة.
    جاء في لسان العرب: قرأ، يَقْرَؤُهُ، ويَقْرُؤُهُ، قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته. وقال ابن عباس: فإذا بينّاه لك بالقراءة، فاعمل بما بينّاه لك. وقرأت الشيء قرآنا: جمعته وضممت بعضه إلى بعض( ).
    يتضح إن فعل القراءة المعجمي يدل على الاتباع والتبيين، وهذا ما يبتعد نقديا عن دلالتها في المنظور الحديث، إذ تحوّل من فعل متذوّق إلى مستكشف ومُنتج، متجاوزا الحدود اللغوية، مُغايرا لما هو سائد في القراءات التصنيفية.

هوامش
( ) يُنظر: هكذا أقرأ ما بعد التفكيك: 59-60.
( ) يُنظر: أوهام النخبة أو نقد المثقف، علي حرب: 14-15، ويُنظر: أزمنة الحداثة الفائقة، علي حرب: 190.
( ) مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد: 24.
( ) يُنظر: النص والحقيقة- نقد النص: 215-217.
( ) يُنظر: م. ن: 210.
( ) م. ن: 43.
( ) من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، حسن حنفي: 36-37.
( ) يُنظر: هكذا أقرأ ما بعد التفكيك: 133.
( ) يُنظر: الماهيّة والعلاقة نحو منطق تحويلي، علي حرب: 48-65، ويُنظر: أصنام النظرية وأطياف الحرية(نقد بورديو وتشومسكي)، علي حرب: 10.
( ) الممنوع والممتنع: 22.
( ) يُنظر: نقد الحقيقة: 27.
( ) القراءة والحداثة- مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، حبيب مونسي: 179.
( ) يُنظر: لسان العرب، مادة(قرأ). والآية هي 18 في سورة القيامة.

  • جامعة بابل/ كلية الآداب

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة