المترجم اليمني محمد أحمد عثمان:
حاوره: محمد الحمامصي*
على الرغم من قلة الأعمال التي قدمها القاص والروائي والمترجم اليمني محمد أحمد عثمان منذ تسعينيات القرن الماضي سواء قصا أو رواية أو ترجمة، إلا أن فضاءات أعماله على اختلافها تتمتع برؤى عميقة ذات خصوصية، ففي قصصه ورواياته تتجلى شفافية اللغة والأسلوب فيما تعترك الأبعاد الإنسانية، واختياراته في الترجمة تسير في الإطار ذاته. صدرت له مجموعات منها « ينحرف نحو هيئة رصينة ويتوقف فيها» و»وجوم»، «الفراغ المقابل» وفي الرواية «الرجل الذي خرج من حكاية جدي»، «رجة تحس بالكاد»، وفي الترجمة «فن التأويل»، و»المثل الأعلى لخارطة العالم» هو أول كتاب للشاعر سيرجي بي يترجم إلى العربية.
في هذا الحوار معه نتعرف على رؤاه كمترجم خاصة أنه ذهب للترجمة بعد أن قدم الرواية والقصة القصيرة.
بداية يرى محمد أحمد عثمان أن الترجمة مثلها مثل كل نشاط كتابي آخر، نحن من يذهب إليه أولا ويراوده إما بدافع المحاكاة أو الرغبة في التعبير أو تحدي النفس إلا أنه بتكرار التجربة سرعان ما نقع تحت سطوته وجاذبيته ويصبح هو من يجتذبنا إليه ويخضعنا لمشيئته ويغدو هو من يختارنا ويطالبنا بدور الوسيط بين النص في لغته الأصلية وبين القارئ في اللغة التي نترجم اليه.
ويقول عن ذهابه إلى عالم الترجمة «اعتبر أنني بمجرد اختياري دراسة لغة ما بما يتضمنه برنامجها الدراسي من مقررات تتعلق بالترجمة أكون قد اخترت عن وعي هذا النوع من النشاط، يأتي إلى ذلك ما كنت أتمتع به من اهتمام خاص، بحكم فضولي الثقافي والمعرفي، يتجاوز المقرر الدراسي إلى المحاولة مع نصوص من خارج المقرر والتي غالبا ما يطغى على هذه المحاولات الطابع الاختياري التي قد لا تخرج عن الدوافع المذكورة أعلاه. وبالنسبة لي فقد حدث ذلك في سياق فضول معرفي وقرائي كنت أتمتع به حتى من قبل الالتحاق بقسم اللغة الفرنسية بوقت طويل. لقد كانت اللغة الفرنسية بالنسبة لي بمنزلة ذلك السور الذي كان لدي الشغف لتسلقه بين وقت ووقت آخر بهدف رؤية ما يخبئ وراءه من نصوص وإمكانات تعبيرية. وهكذا حدث أن ظهر إلى حيز الوجود أول نص قمت بترجمته ولم أزل حينها في سنتي الدراسية الثالثة «بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة» لمؤلفه دي سيجي.
العرب البالغ عددهم أكثر من 270 مليون نسمة لا يترجمون سنويا سوى 475 كتابا، في حين تترجم إسبانيا البالغ عدد سكانها 38 مليون نسمة أكثر من 10 آلاف كتاب سنويا
من ناحية أخرى يمكنني التحدث عن الترجمة من زاوية أنها هي من اختارتني. إذ أنني قبل أن أدمج هذا النشاط في حياتي كنت كاتبا أنجزت عدة نصوص قصصية وشعرية. في الحقيقة كنت قد وصلت مع هذا النوع من الكتابة الإبداعية إلى تلك المرحلة التي لم تعد معها الكتابة نشاطا قصديا أجبر نفسي عليه، بل بالأحرى نشاطا قهريا أقوم به استجابة لنداء الكتابة نفسها. ولقد حدث أيضا بحكم تكرار التجربة أن اندمجت أنشطتي الترجمية في هذا الميكانيزم الكتابي اللاإرادي بحيث يحدث لي أحيانا أن أذهب إلى النص الذي أود أن أترجمه بالطريقة طريقها التي أذهب بها إلى نصي الخاص أي كاستجابة قهرية لصوت داخلي للانكباب على هذا النص أو ذاك.
ويشير عثمان إلى أن التحديات التي تواجه الترجمة والمترجم كوحدة واحدة، التحدي الأول الذي يتمثل من منظور تجربتي الشخصية بمحدودية الاختيار. فكما تعلم فإن سوق الكتاب الأجنبية ضعيفة في الوطن العربي بل إنه في بلد كبلدي اليمن يكاد ينعدم، والحال كذلك يجد المترجم نفسه أحيانا مضطرا لترجمة ما يقع تحت يده. صحيح أننا بتنا في هذا الزمن نملك طرائق لتجاوز هذه الصعوبة كالتسوق عن بعد، لكن كما تعرف ليس كل المترجمين يملكون حسابات بنكية كما أنهم ليسوا جميعا قادرين على التعامل مع تقنيات التواصل الحديثة.
ننتقل بعد ذلك إلى التحدي المتعلق بالنشر. ففي وطننا العربي الكبير لا يوجد سوى عدد قليل من الجهات ودور النشر المختصة بنشر الأعمال المترجمة التي تقوم أعمالها على أساس التعاقد. لكن مشكلة هذه الجهات، إضافة إلى محدودية عددها أنها لا تتعامل في الغالب إلا مع أسماء مكرسة ومعروفة، ومن النادر أن تجد دارا يمكنها أن تغامر مع مترجم مجهول. والحال كذلك فمن الصعوبة بمكان بالنسبة للمترجم الجديد الحصول على عقد ترجمة من هذه الدور، ما يضطره أحيانا بل غالبا إلى القبول بنشر عمله المترجم بلا مقابل. هنالك أيضا ذلك التحدي ذو الطبيعة الثقافية. إذ ما تزال ثقافتنا العربية بمجملها ثقافة محافظة وتقليدية ولديها مخاوفها من الوافد والغريب، وتميل بسبب ذلك إلى الانغلاق على نفسها داخل حدودها ومقولاتها وينعكس هذا التحدي في تحد آخر يتمثل في انعدام البرامج سواء على المستوى الحكومي أو الأهلي المكرسة لدعم الترجمة.
في الواقع عندما يختص الأمر بالترجمة يمكن لقائمة التحديات التي تواجه الترجمة والمترجم أن تتناسب إلى ما لا نهاية. لكني أكتفي بهذا القدر لننتقل من ثم إلى هذا المقترح حول طريقة مواجهتها والذي يتكثف في تبني سياسات مجتمعية، ثقافية وتعليمية، جديدة تمثل الترجمة أولوية فيها.
ويضيف «هنالك شروط من جهة العمل الأدبي أو الفكري نفسه كأن يكون قابلا للترجمة بمعنى أن يكون مكتوبا بلغة تتناسب مع إلمام المترجم بتلك اللغة، وهنالك شروط من ناحية المترجم أن يكون العمل المترجم قد توافق مع ذوقه واهتمامه ورؤاه الفكرية والجمالية كما يمكننا على المنوال نفسه الإشارة إلى شروط من جهة الثقافة والمجتمع الذي نترجم الكتاب إلى لغته، إذ يفترض أن يتناول الكتاب موضوعا هو محل اهتمام القارئ بالمعنيين العام والمتخصص لأننا في الأخير لن نغامر في ترجمة كتاب لن يقرأه أحد.
ويلفت عثمان إلى أن هنالك ثلاثة معايير لترجمة أي كتاب أن يكون قد توافق مع اهتمامات المترجم وإن يكون قابلا للترجمة بمعنى قابلا للمرور من اللغة التي نترجم عنها إلى اللغة التي نترجم إليها وأخيرا أن يلبي حاجة عمومية لدى القراء الموجه إليهم.
ويتابع «ليس المترجم فقط بل كل متخصص في مجال ما من المجالات العلمية او الأدبية ويجيد لغة اجنبية (ينبغي أن نعيد هيكلة التعليم في الوطن العربي بحيث تتعزز دراسة اللغات الأجنبية في المدارس والجامعات وبكون إجادة لغة أجنبية شرطا من شروط التعليم العالي) مطالب بترجمة كتاب واحد على الأقل أو بضعة كتب إلى لغته في سياق خدمة هذه الثقافة التي هي ثقافته، وبالنسبة للترجمة الأدبية لا أظن أن كل المترجمين قادرين على ترجمة عمل أدبي، فالأدب هو تخصص له قاموسه الخاص المختلف بهذه الدرجة أو تلك عن المجالات الأخرى، كما أن له مساربه النفسية والمزاجية التي لا يجيدها إلا أديب او مترجم قريب من الأدب لهذا قد لا أتفق مع الاعمام الوارد من أن على كل مترجم بالأطباق أن يترجم عملا أدبيا إلى لغته.»
ويوضح عثمان أسباب انتشار ترجمات الإسلام السياسي وما اتصل به «ربما تكون قد سمعت عن هرم ماسلو للحاجات في علم النفس، والذي يقول بأن إشباع الحاجات الإنسانية يبدأ مما هو أساسي ثم الأقل فالأقل أساسية. نفس الأمر يمكن عكسه على كل مجال وكل شأن من شؤون الإنسان. إذ أننا بدافع غريزة البقاء على قيد الحياة نمحور اهتمامات الإنسان بشكل لا إرادي حول ما هو أساسي. وكما تعرف فقد شكل مكافحة هذه الظاهرة التي هي ظاهرة الإسلام السياسي وظواهر الإرهاب وأعمال العنف المترتبة عليه أولوية بحكم انتشارها واتساع نطاقها خلال العقود الأخيرة إلى درجة باتت تشكل معها قلقا على كل مواطن.
وفي هكذا حال فمن الطبيعي ان تتمحور الكثير من الاهتمامات الثقافية وفي تعدادها الترجمة حولها. حتى أن ذلك قد تم بشكل تلقائي لا يد للناس فيه وبحسب هرم الحاجات. على الرغم من اني شخصيا لا أحبذ أن تستحوذ الظاهرة على أهمية أكثر من أهميتها ويفترض أن لا يأتي الاهتمام بها على حساب غيرها من الاهتمامات الحيوية التي تخص الاحتياجات المتنوعة للمجتمع لكن ماذا نفعل، في الأخير كل شيء بما فيه الترجمة نفسها خاضعة لهرم الحاجات عند ماسلو وكذلك لقوانين السوق والعرض والطلب.
ويؤكد عثمان أن دور المجال الثقافي والاهتمام به قد تراجعا ملحوظا خلال العقود الأخيرة لصالح مجالات أخرى كالمجال السياسي أو بالأخص مجال الميديا ووسائل الاتصالات الحديثة التي باتت تشكل هي والمنتج الذي تقدمه محور اهتمام الأجيال الجديدة، فقبل هذه الحقبة كانت هنالك تراتبية أن لم تكن لصالح الثقافة فقد كانت في الأقل في مستوى واحد مع السياسة. إذ كان المثقف هو من يرسم الخطط ويوجه السياسي نحو أولويات المجتمع واحتياجاته. لكن الأمور تغيرت اليوم وحل محل المثقف مقدم ومعد البرامج التلفزيونية والمشرفين على مواقع التفاعل الاجتماعي وإلى ما هنالك من سدنة جدد للعالم الروحي.
لقد انتهى دور الشاعر النبي والمثقف النبي الذي عرفناه خلال عقود الستينيات السبعينيات وحتى الثمانينيات وحل محله الشاعر والمثقف الذي يكاد اهتمامه لا يتجاوز ذاته، وهذه كلها تغييرات يجب أن نأخذها بعين الاعتبار عندما نتحدث عن المجال الثقافي وتراجع دوره لكن لا ننسى أيضا الانهيار في مؤسسة التعليم وتراجع مخرجاته فهذه المؤسسة المهمة في حياة كل شعب لم تعد تصب في اتجاه تفتح المدارك الثقافية للناس، وكل ما تعمله حاليا تخريج جيل نافر من الكتاب، نافر من التساؤل، نافر من التأمل، وجل ما يهمه الإيفاء بحاجاته الأساسية. والحال كذلك كيف لنا ان نأمل بحياة ثقافية فاعلة في حياة الناس.
ويقول «يقع على عاتق الترجمة دور كبير في تبديد سوء الفهم الحاصل حاليا بين الثقافات وخصوصا بين الثقافة العربية والإسلامية وثقافات العالم المتاخمة وخصوصا على الجانب الآخر من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. فكما تعلم فقد تدفق خلال العقدين الماضين، منذ 11 سبتمبر/أيلول وما تلاه من صعود لظاهرة الإرهاب ومكافحتها وحتى اليوم، الكثير من غيوم سوء الفهم بين ثقافتنا العربية والإسلامية وسائر الثقافات على خلفية العمليات الإرهابية التي شهدها العقدان الماضيان والترجمة اليوم مطالبة جنبا إلى مع الدبلوماسية بإعادة تصحيح سوء الفهم وذلك من خلال نقل المنتجات الثقافية والإبداعية من العربية وإليها. لكن من العربية إلى الثقافات الأخرى أكثر كي ترى هذه الثقافات أن العربي والمسلم جانب آخر، ذلك الجانب من الصورة الذي حجبته أدخنة هذه الصراعات وأعمال العنف.
ويختم عثمان برؤيته حول موقع الترجمة ضمن المشهد الثقافي العربي قائلا «لكي نأخذ فكرة عن موقع الترجمة في الثقافة العربية ما علينا سوى أن نلقي نظرة على هذه الاحصائية حول نسبة الترجمة في الوطن العربي مقارنة بدول أخرى، والتي وردت في هذه المقالة المنشورة على النت وهي إحصائية، كما يقول صاحب المقالة، نفذتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) التي تبين «أن العرب البالغ عددهم أكثر من 270 مليون نسمة لا يترجمون سنويا سوى 475 كتابا، في حين تترجم إسبانيا البالغ عدد سكانها 38 مليون نسمة أكثر من 10 آلاف كتاب سنويا. ودلل على كلامه بأنه بينما يحظى كل مليون مواطن في المجر بنحو 519 كتابا سنويا ويبلغ نصيب كل مليون إسباني في العام 920 كتابا، فإن متوسط عدد الكتب المترجمة في العالم العربي لا يتعدى 4.4 كتاب لكل مليون مواطن سنويا). واقع الترجمة في الوطن العربي. فرج محمد صوان)
بعد هذه الأرقام لا شيء لنا لنقوله حول موقع الترجمة. فمن الواضح من الأرقام أعلاه أن الترجمة تحتل مكانة متدنية مقارنة بالشعوب الأخرى. المتدني لمجال الترجمة في الوطن العربي، وهو المجال الذي على الرغم من تواضعه تدين له ثقافتنا العربية إلى حد كبير بذلك القدر من التجدد الذي حققته خلال القرن الماضي.
*عن موقع ميدل ايست اون لاين