تداخل الفصول في «خانة الشواذي»

يوسف عبود جويعد

يمتاز الروائي عبد الخالق الركابي، بما يمتلك من خبرة وممارسة ودراية ووعي، في عملية فن صناعة الرواية التي تمكنه بلم محاور السرد والامساك بالنسيج الروائي وخيوط السرد بشكل متقن، وهو الذي يقوم بحياكة هذا النسيج السردي لكي يكون دائماً ماثلاً نصب عينيه، في رواية (خانة الشواذي)، يقدم لنا هذا التداخل بطراز جديد ومختلف، رغم بقاء الصفة الغالبة لديه في عمليه تدوين النص السردي الروائي الذي يكون مزدحماً ومتدفقاً وزاخراً بالشخوص والأحداث والأزمنة والأمكنة الذي لا يتوانى أو يتقاعس عن ضخها في متن النص، دون أن يغفل أي شاردة أو واردة تخص عملية البناء الذي يحتاج هذا الجهد الفني المطلوب من أجل اكتمال عملية سير الأحداث وفق سياقها الفني الذي يميزه عن سواه للوصول إلى النضج الفني المطلوب، حيث نجد أنه عمد في تدوين الفصول إلى تنوعها بين أن تكون مرقمة متسلسلة، لتعود ثانية مرقمة ومتسلسلة، وتعود ثالثة مرقمة ومتسلسلة وتعود رابعة متسلسلة ومرقمة، وتتخلل كل محور من تلك المحاور فصل معنون كتابة، ويعد هذا الفصل المحور الأول للولوج إلى الفصول المرقمة، وفي ذلك غاية يريد أن يقدمها الروائي ضمن النسق الذي اختاره لبناء هذا النص، فالفصول المرقمة الاولى تخص الرسائل التي بعثت من طه إلى الاستاذ نزار من أجل جمعها وربطها ومتابعتها لإخراجها كعمل روائي، وهي الأحداث التي دارت في مدينة بدرة الحدودية المتاخمة للجارة إيران، والفصول المرقمة الثانية المتسلسلة فإنها تقدم لنا الأحداث التي دارت خارج أسوار تلك المدينة، والثالثة التي تتعلق بحكاية نادر والرابعة وهي الأهم والتي تلفت الانتباه تؤكد مدى اهتمام الروائي بتلك الصنعة، فإنها تخص أحداثا حصل عليها نزار من المحامي رفعت من خلال محضر التحقيقات التي دونت عند اعتقال طلال باتهامه بمقتل فيصل الأحمر عند غرق الباص الخشبي (دك النجف) التي دورها نزار لتدخل ضمن أحداث هذا النص، والتي تحمل اللغز الكبير، بل إنها تتضمن في مبناها لغزين محيرين، أولهما حكاية هروب ملك المنفية في مدينة بدرة، حيث كانت تلك المدينة أشبه بمنفى يرسل إليه كل من صدر فيه الحكم بالنفي، وكانت ملك واحدة من هؤلاء المنفيين، وسكنت بيت فيصل الأحمر إلا أنها أحبت نادر بشير وهربت معه بعد أن حملت منه، هذا اللغز الاول أما الثاني فهو مقتل فيصل الأحمر الذي أخذ الباص الخشبي بعد أن علم باعتقال نادر من أجل أن ينتقم منه، كونه مسؤولاً عن حياة المعتقلة ملك، وقد تعرض للسجن بسبب هروبها لولا تدخل آمر سرية الخيالة، وهكذا فإن المحور الرابع للفصول يعني أن الأحداث التي تضمنها خارج الاحداث التي كان يرسلها طه إلى نزار وكذلك خارج الاحداث التي هي بعيدة عما يدور في مدينة بدرة، وأنها محاضر تحقيقات استطاع نزار تجميعها وتحويلها إلى عالم سردي لتنظم إلى بقية الأحداث، أما الفصول التي دونت بعناوين مكتوبة فإنها تخص عملية تركيب وترتيب وتنظيم هذا المبنى السردي، والذي يبدأ من الرسائل المرسلة من طه إلى صديق طفولته نزار، وكذلك الأحداث الأخرى آنفة الذكر، أي أنها عملية البناء الأول لمبنى النص السردي، حيث تبدأ عملية التدوين لهذا النص، بعد نبأ وفاة طه وانقطاع رسائله:
(سألتني زوجتي تقى، وسط انهماكها بإعداد مائدة العشاء حيث روائح الأطعمة تفوح بقوة، رامقة إياي بنظرة منتبهة. فأجبتها وأنا أتهالك جالساً على أقرب كرسي:

  • يبدو أننا فجعنا بوفاة أعز اصدقائنا!
  • من هو؟ لا تقل إنه طه طلال!
    وتمتمتْ حينما وجدتني لا أحير جواباً:
  • إنا لله وإنا إليه راجعون.
    وجلستْ بدورها على أحد الكراسي لتسألني عمن أبلغني بالنبأ؟ فأجبتها وأنا أتحسس جيوب منامتي بحثاً عن علبة سجائري قبل أن أتذكر أنني تركت التدخين مؤخراً:
  • صديق رفع، على صفحته في الفيسبوك، فيديو عن عملية دفنه في إحدى المقابر الكندية.) ص 13
    وهكذا فإن عملية تركيب وتنظيم تلك المحاور، وصبها في قالب واحد يحمل أحداث هذا النص، مهمة ليس باليسيرة، وتتطلب جهداً فنياً وتركيزاً عالياً، حيث نجد هذا النص متداخلاً في الأحداث، بين الأحداث التي تدور في مدينة بدرة، والأحداث التي دارت في الباص، والأحداث والمجزرة التي حدثت في سجن بغداد ذائعة الصيت، والألغاز والعجائب التي اجتاحت هذا المبنى السردي التي تعامل بها الروائي وفق السياق الفني الذي اتبعه في عملية تدوين الفصول آنفة الذكر.
    لتبدأ الأحداث مع ترتيب مسارها وفق الرسائل التي بعثت من طه طلال، لننتقل من خلالها إلى مدينة بدرة بكل فضائها وسكانها وشخوصها وأحداثها وزمانها ومكانها إبان الحكم الملكي وكيفية حصول فيصل الأحمر على الباص الخشبي (دك النجف) وكذلك مشاركة نادر بشير معه، ثم تسلم فيصل الأحمر مهام عمله في الأمن واستغلال الباص لنقل المعتقلين المنفيين إلى بدرة التي كانت منفى لكل من يعارض الحكم الملكي:
    (وكان هذا التقليد يتخطى ذلك المقعد الأمامي ليشمل كذلك صف المقاعد الخلفية «خانة الشواذي» حينما يكون فيصل الأحمر في طريق العودة من الكوت مصطحباً معه هذه المرة أحد السياسيين المنفيين الى مدينة بدرة: إذ يعمد فيصل إلى فك الأصفاد التي تربط زنده بزند ذلك الرجل ليقيّده إلى أحد مقاعد «خانة الشواذي»)ص 23
    ونكون مع تفاصيل كبيرة ومتشعبة وزاخرة بالأحداث في مدينة بدرة، وحضور المنفية ملك إلى مدينة بدرة ليسكنها فيصل الأحمر في بيته، ويعشقها نادر بشير، ليلتقيا على السطوح و يتبادلا الهمس والحديث، ليصل الأمر الى أن نادر قفز الى سطح فيصل ودخل السقيفة وسط ظلام دامس:
    (ولم يدر نادر ما الذي حصل بعد ذلك، فلحظة أنهت الخالة مهمتها لتعود إلى السلّم هابطة درجاته، اكتشف أن ملاك تبادله العناق والقبل وقد تداخل جسداهما ببعضهما في ظلام السقيفة حتى لم يعد أحدهما يسعه أن يميّز ذراعه أو ساقه عن الآخر، وكان لهاثه قد أخذ يتصاعد على وقع لهاثها هي التي فاجأته، في إحدى اللحظات بصرخة لذة سارع بخنقها بأن تلقف شفتيها بفمه، في حين مضى جسداهما يواصلان إيقاعهما المتناغم الذي انتهى بتلك اللحظة الخاطفة التي فقد خلالها الشعور بكل ما حوله خلا جسديهما في توحّدهما الحارق!) ص 111.
    وبسبب هذه الخلوة التي انتهت بحمل ملك جنيناً، تشتد الأحداث وتقرر أن تهرب مع نادر رغم أنها منفية ويتطلب حضورها وتوقيعها صباحاً ومساءً، إلا أنهما هربا وتكون تلك الحكاية لغزاً محيراً، مما حدا بفيصل الأحمر للانتقام من نادر، وعند سماع اعتقاله في الكوت يذهب ويأتي به مقيداً بالأصفاد، ويقيده في خانة الشواذي، لتختفي أحداث هذه الرحلة وتكون لغزاً آخر، إلا أن تناوب الفصول وتداخلها يفصحان لنا عن تقدم الأحداث وبلوغ تأزمها، ابتداءً من نزار الذي عمل خبيراً في مركز بغداد للفنون من أجل ترميم اللوحات التي دمرت بسبب عملية النهب والسلب لكبار الفنانين، ومنهم طه طلال الذي كانت لوحته تحكي فاجعة الباص الخشبي، ثم فصول كرم وهو يبحث عن خاله طلال بعد اعتقاله عند اكتشاف الباص وهو غارق في السيول ومقتل فيصل الاحمر ونادر بشير، وفصول المحضر وهي الأخيرة التي نكتشف من خلالها حلول الألغاز، فنكتشف أن ملك قد توفيت في أحد مستوصفات ديالى، لنزفها بسبب الإرهاب الذي أصابها برحلة الهروب، ونكتشف الأحداث التي دارت في الباص من خلال فصول المحضر:
    (لم يعد يعوز تلك الرواية، التي طالما حاورت طه بشأنها في رسائلنا، لتكتمل سوى وجود ذلك الروائي المحترف الذي يعرف كيف يحرر الملف الجديد من صيغة التحقيق بين جهة قضائية ومتهم، مضفيا عليه لمسته الإبداعية التي تجعله جديراً بأن يشكل القسم الأخير الذي ستكتمل به الرواية.) ص 197 .
    إن العملية الفنية التي خاض غمارها الروائي عبد الخالق الركابي في أحداث رواية (خانة الشواذي) فيها الكثير من الجهد الفكري والوعي المستمد من التجربة الطويلة في مجال فن صناعة الرواية، والذي نشهد فيها هذا التداخل المبهر في الأحداث عبر فصولها المتنوعة والتي تتنوع في أحداثها إلا أنها تتوحد في الارتباط في بؤرة الاحداث، وكأننا نشهد أحداثاً أكثر من نص روائي لكن الغريب في الأمر كل تلك الأحداث مرتبطة متصلة متوحدة تحكي حياة مدينة بدرة وتلك الحكايات التي هي من ضمن تاريخ هذه المدينة.

من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت – لبنان لعام 2019

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة