سارة عابدين
نعيش في عالم ثلاثي الأبعاد، ونتعامل دائماً خلال تلك الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، الذي أسس لهم الفيلسوف اليوناني إقليدس مؤسس الرياضيات، ومع ذلك قبل عدة مئات من السنين افترض علماء الفيزياء والرياضيات، وجود البعد الرابع رياضياً، وهو الوقت أو الزمن، كبعد آخر مع الأبعاد السابقة، كما أنه يشير إلى استمرارية الزمكان، بينما يفكر فيه آخرون على أنه بعد روحي ميتافيزيقي.
حاول العديد من الفنانين، مثل التكعيبيين والمستقبليين والسيرياليين، خلال بدايات القرن العشرين، إيصال البعد الرابع في عملهم الفني ثنائي الأبعاد، متجاوزين محاولات التمثيل الواقعي للأبعاد الثلاثة، إلى تفسير مرئي للبعد الرابع، وخلق عالم من الاحتمالات اللانهائية.
البعد الرابع في الفن
عدَّ الفنانون البعد الرابع بعداً مكانياً آخر. إذا أمكننا نقل أنفسنا إليه، سنتمكن من رؤية مناظير متعددة للمشهد في وقت واحد. لكن يبقى التساؤل: كيف يمكن عرض كل المنظورات المختلفة على سطح اللوحة؟
كان رد بيكاسو بعد انشغاله الدائم بفكرة البعد الرابع هو ظهور المدرسة التكعيبية، عن طريق عرض أكثر من منظور للمشهد على لوحة واحدة. وتعدُّ لوحة (آنسات أفينيون) لبيكاسو التوضيح الأهم لفهم بيكاسو لتلك الإشكالية، عن طريق عرض شظايا متزامنة من منظورات متعددة، ووجهات نظر أمامية وجانبية للوجوه نفسها، وهنا يتعلق البعد الرابع بالطريقة التي يلتقي فيها نوعان من الإدراك: الإدراك الواقعي اللحظي، والإدراكات الأخرى المختلفة التي يمكن أن تكون.
لم يكن اهتمام بيكاسو بالدراسات الخاصة بالمكان فنياً فقط، لكنه كان يظهر اهتمام بالتطورات العلمية، حيث أن العنصر الجمالي الأهم في لوحة (آنسات أفينيون)، كان الاختزال، أو رد الأشكال إلى أصلها الهندسي، وكان تأثير سيزان كبيراً على بيكاسو بسبب طريقته في دمج مقدمة اللوحة مع خلفيتها بدون ظهور واضح للمستويات المختلفة بشكل يوحد الأشياء. حاول سيزان دائماً إظهار عدة نقاط للمنظور تتغير أثناء مشاهدة اللوحة من زوايا مختلفة. تطلب هذا الأمر من سيزان فهماً عميقاً للعلاقات المكانية والعلاقات الهندسية، ربما لذلك أشار بيكاسو أن سيزان هو معلمه الوحيد. لكن تبقى فكرة بيكاسو عن البعد الرابع مختلفة عن فكرة سيزان، حيث يضع سيزان على اللوحة كل الجوانب المرئية للمشهد في وقت واحد، التي اختزنها العقل الباطن خلال فترات سابقة، بينما يحاول بيكاسو أن يقوم بتمثيل متزامن لوجهات نظر مختلفة تماماً يشكل مجموعها وجود العنصر نفسه.
البعد الرابع عند سلفادور دالي
نظر بعض الفنانين إلى البعد الرابع نظرة روحانية ميتافيزيقية، مثل الفنان السوريالي سلفادور دالي، في لوحته (صلب المسيح)، التي استخدم فيها دالي فكرة البعد الرابع لإظهار العالم الروحي الذي يتجاوز عالمنا المادي. بالرغم من أن دالي استمر في استكشاف أفكار الفيزياء النظرية طوال حياته المهنية، لكن لوحته (صلب المسيح) هي أكثر أعماله الفنية الدالة على ذلك الاستكشاف.
يظهر المسيح في اللوحة على صليب هائماً في الهواء. الصليب العائم عبارة عن مكعب ثلاثي الأبعاد متراكب مع مكعب آخر، ليعطي أبعاد متعددة. جسد المسيح يتمتع بصحة جيدة، ورياضي لا يحمل أي علامات تعذيب، أو ألم، وتظهر جالا زوجة الفنان في اللوحة كشخصية تعبدية، تشهد انتصار المسيح الروحي على الأذى الجسدي. لا تخلو اللوحة من عناصر الأحلام التي توجد دائماً في لوحات دالي، مثل الطبيعة القاحلة، ولوحة الشطرنج، لكن التأويل الأهم للوحة هو الصلة بين خلاص المسيح والقوى الهندسية الفيزيائية، بشكل يبدو أنه يسد الفجوة التي يشعر أغلبنا أنها تفصل بين العلم والدين.
*ضفة ثالثة