الروايات القصيرة جدا أنموذجا
ظاهر حبيب الكلابي
لماذا الرواية القصيرة جدا؟
هل تعتبر الحاجة الى الرواية القصيرة جدا إستجابة لحاجات نفسية إبداعية تتوسط بين التكثيف المستغرق والعميق للقصة القصيرة والأطناب الممل للرواية الطويلة في الحكي والسرد والوصف بدلالات الزمان والمكان والحدث وارهاصات الشخصيات وتمردها وصراعها، من خلال تأثر الأجناس الأدبية بعدوى إرهاصات الثقافة الرقمية وتكنلوجيا المعلومات التي عودت المتلقي على تقديم الموجز المفيد والمعلومة الراكزة، فجاءت الحاجة نحو استدعاء أجناس أدبية لتلبي تحقق متطلبات الانفعال والتماهي والإدهاش من دون الأخلال بالشروط الموجبة لصنعة الأبداع الروائي من حيث البناء الفني وحضور الحدث وعمق الشخصية ومركزيتها في السرد وقدرتها عبر السرد بالأخذ بتلابيب القارئ وتحقيق التفاعل العاطفي والوجداني المدهش، فكانت الرواية القصيرة جدا، التي منحت السرد القدرة على الغور والتفسير على المستوى الرمزي والواقعي، ولتوفرها على أمكانية فتح مغاليق السرد وقراءة ثنايا الخطاب وخارجه قراءة جمالية عميقة، لذا جاء تطبيق الرمز في الروايا القصيرة للحريزي في هذه المجموعة الصادرة عام ٢٠١٩ عن مطبعة حوض الفرات النجف الأشرف، عميقا وغائرا وتمثيله لم يكن عشوائيا، فالرمز تجربة ابداعية جمالية تحتاج الى جهد سردي وفضاء فكري ضابط للعلاقة بين المنجز الإبداعي وتمثلات الرمز وتشظياته الجمالية والأنية الراكزة على مضمر يلمح الرمز نحوه بتمثلاته ليبعد السرد عن السطحية والمباشرة .فهناك علاقة ابداعية معقدة تقوم بصهر الروابط الأنفعالية بجذور تجليات الخطاب الغائرة في المنظور السردي وصراع الشخصية في محيطها المتخيل.
الصراع في مواجهة الزيف
قدم الروائي في هذه المجموعة أربع روايات قصيرة جدا وهي) المقايضة. والقداحة الحمراء.وأرض الزعفران .والمجهول)، فقد وظف الروائي الحريزي الهم السياسي وعبر رموزه الشخصية والشيئية، ومن خلال متانة صياغة السرد بلغة سهلة قريبة لفضاءات القارئ النفسية والثقافية، فالروايات الثلاث بعد اخراج رواية أرض الزعفران تلوح بالهم السياسي الواضح وصراع المظلوم في مواجهة واقع الزيف والفساد وقهر السلطة والحرمان من قبل السلطات الشمولية .
فجاء الرمز في رواية المقايضة برمزها التهكمي الفاضح عبر صورة الذيل في طوله وقصره ليفسر طبيعة الولاء المتغابي والساذج الممنوح بالمجان لصورة الطغيان والاستعباد .فالرمز يشكل إدانة واضحة لمرحلة الخواء والجدب في طبيعة الاستسلام والرضوخ لخطابات المستبد الشمولي . وفي رواية القداحة الحمراء القصيرة جدا يأتي الرمز محمولا من خلال هيمنة الصورة الرابطة القداحة الحمراء بتجليات اللون ودلالة مرجعياته الآيديولوجية وفعلية القدح والأشعال وعبر رمزية المناضل الكردي البسيط العاشق لوطنه وقضيته وخلاصه كاكا حسن الذي عاش اغترابين اغترابا على صعيده الشخصي بعيدا عن وطنه وأهله وقضيته واغترابا في ضياع الفكر والموقف الوجودي بعد فشل المواثيق السياسية مع الانظمة الشمولية فشل مشروع الجبهة الوطنية فقد جاء الوصف الفني مقتضبا للأمكنة يجنح نحو انضاج الوعي بالممارسات الخارجة عن الطابع الإنساني والاستغلال الطبقي فقد جاء فقدان ونهاية كاكا حسن رمزا واضحا لهيمنة القهر وغياب الأيديولوجيا التي تأخذ زمام المبادرة والخلاص وترك القداحة الحمراء الرمز المتمثل بصورة العلاقة مع الجذور والتاريخ والقضية القابلة للإنعاش والتفجير لمن يتمكن من فك شفراتها وطرائق توظيفها .لم يمنح السرد امكانية الغور العميق في نفسية كاكا حسن مع كونه الشخصية المحورية والإشكالية المضببة وغير المستقرة حتى يقذف بها السرد خارج لعبة الوجود لتكون رمزا عريضا للرفض وعتبة مجهولة للاغتراب والنفي السياسي لكونه شخصية لم تكن رمزية شكلية بل رمزية لها تشظياتها على الفعل الإنساني وعمقها الأيديولوجي الممزوج بالبساطة والحياة والانتماء للقضية والوجدان فكانت شخصيات روايتي القداحة الحمراء والمجهول شخصيات تعاني الوحدة بشكل كوني مرعب لها مبرراتها الفلسفية وارتكازاتها الاجتماعية القاهرة.
الواقعية والخيال في الكتابة السردية
الروايات القصيرة جدا عند الحريزي تجمع محورين ومسلكين الواقعي والمتخيل بل صار الوهمي والمتخيل أعمق اشتغالا وتماهيا مع الوعي الشعبي رواية أرض الزعفران فقد تداخل الرمزي والوهمي في بنية واحدة عميقة مع تعدد الرؤى مع هيمنة الرؤية الأيديولوجية جاءت الروايات القصيرة الأخرى معبأة بالرمز السياسي وارتكاساته في التغييب والضياع فكانت هناك نصوص لها طابع الانتماء والتاريخ وتوفر الروايات على شخصيات مثقفة، الأنتلجنسيا .
وحضور الصوت المتعدد أرض الزعفران القداحة الحمراء .
كان للمكان عند الحريزي أهميته ووظيفته السيكلوجية والسوسيولوجية هناك توافق لبعض الشخصيات مع الأمكنة وهناك تصادم لبعض الشخصيات مع الأمكنة القهرية كاكا حسن في الفهود الناصرية في القداحة الحمراء المجهول في غياهب المجهول، الفضاء الرمزي أضحى طاردا للفضاء الواقعي حتى في ارض الزعفران فيمكن فهم عمق المأساة وطبيعة الصراع عبر قراءة الأمكنة وتجاذباتها علائقيا ونفسيا واجتماعيا.
ان سلطة الرمز ودلالته الإيحائية ترصد مع فهم علاقة الفضاء المكاني لكونه يعد جزءا من فضاء النص الروائي ومرجعياته الواقعية والذهنية والخيالية والتأثير فيها يظهر على الشخصيات والأشياء بقوة فالرمز المتعالق مع الفضاء المكاني المفتوح يمنح الرواية طابع العمق والإيجابية والتأثير فالتعمق في وعي الشخصيات يجعلنا نعثر على رموز ودلالات تتطلع نحو خلاصها الفردي ضوية والمجهول وكاكا حسن وادريس . فكان احساس الشخصيات بالخطر وتهديد المجهول دليلها نحو الفعل الاختياري نحو الخلاص والحرية بعد زحف العفن والجدب والخواء.
كما جاءت رواية المجهول عبر رمزية بطلها المجهول الوحيد في غربة وطن تناوشته ذئاب اليوم بين محتل شرير ونفعي نهاب في لعبة سياسة يقرب فيها الماحل ويقصى المناضل الشريف بل قد يتهم هو الخائن حسب مقتضيات السياسة وفنون الأعلام فهو الألم الكبير الذي يكشف عنه السرد عبر حبكة عميقة ومؤثرة فيظهر السرد مدى الاغتراب العميق للمناضل السياسي وهو يعيش حالة انعدام الرؤية بسبب تضبب الفضاء وانعدام الباصرة وسط عالم تسوده الفوضى والخراب فكشف لنا السرد عن ادانة شاملة لكل رموز المرحلة السياسية والاجتماعية لأنها ساهمت بشكل أو آخر على القبول بمناخ يتماهى مع حالة الفوضى واستلاب الهوية وكشفت عن خطاب سياسي مضمر يطعن بكافة التبريرات السياسية التي تداهن الفوضى على حساب الهوية والتحرر والوعي وفي رواية أرض الزعفران يجنح الروائي نحو الخيال الفنطازي ليؤسس حكاية تتماهى مع انزياحات الخيال الشعبي ليحاكي قصص الف ليلة وليلة ورحلات السندباد والشاطر حسن فالعنوان أرض الزعفران له طاقاته الروحية ومرجعياته الطقوسية الساكنة في تخوم الطلاسم والتعاويذ والتمائم والقوى الخفية هكذا شكل الروائي سرده وبناءه الفني عبر انعكاسات شخصية ضوية الطافحة بالنور والضياء وسحرها الكوني عبر حكاية تتوسط بين الواقعي والمتخيل والحقيقة والوهم عبر استثمار المخيال الشعبي الأسطوري لبناء حبكة تتفجر بالخيال والدهشة بعدما تمكن الروائي من ازاحة الحواجز بين العوالم الواقعية والمتخيلة بهيمنة الخطاب بضمير المتكلم العليم الذي يشارك في صنع الحدث وتأويله ليمنح الإيقاع السردي حركة دائبة بهاجس التوقع والترقب القلق.