د. وسام عباس جعيجع
المجموعة الشعرية (نشيد القيامة) للشاعر صادق الدراجي معزوفة جنوبية تختزل في أغوارها تاريخاً من وجع الأهوار والجنوب، وهي تؤدي ذلك التاريخ بحرفية فنية عالية بعيداً عن التوثيق المباشر للأحداث، ورغم أنها لا تبتعد عنه؛ فهي تصهره في بوتقة التاريخ البشري العام تاريخ المعذبين والمحرومين بصيغة أسلوبية فائقة الشعرية يتم فيها تداخل الأزمان والشخصيات والأحداث حتى ليكون التاريخ بمجمله حدثاً واحداً يكرر نفسه بأحداثه وشخصياته وأزمانه.
ورغم أن قصائد المجموعة كتبت بتواريخ متفرقة ابتداءا من 1993 حتى 2016 بحسب تأريخ الشاعر لها، فهي تنتظم ضمن ثيمة واحدة كبرى هي بحسب قراءتي ثيمة الصراع بين الحب والكراهية بكل ما يتفرع عنها من صور أخرى لهذا الصراع: (الخير والشر، الحرب والسلام، الموت والحياة..الخ). ولعل عنوان (نشيد القيامة) الذي جعله الشاعر عنواناً لهذه لمجموعة المكونة من خمسين مقطوعة شعرية نثرية كان الاختيار الأمثل في تصويره لهذه الثيمة الرئيسة المبثوثة في عموم قصائد المجموعة. خاصة وأنه عنوان أهم مقطوعة شعرية في هذه المجموعة.
يتكون العنوان أولاً من ثنائية متواشجة في دلالاتها (النشيد) من جانب وما يوحي به من دلالات الشعر والفن والغناء والحياة، و(القيامة) ثانياً وما تحيل إليه الكلمة من دلالات العودة والقيام من الموت، وهو عنوان يتناص مع منظومة ثقافية دينية وحضارية في الدرجة الأولى فيحيل إلى قيامة المسيح، أو عودة دموزي الراعي كما في الثقافة الرافدينية القديمة. وهذه ثيمة رئيسة في ثقافة منطقة (الهلال الخصيب) وجدت شكلها الناضج في الشعر الحديث في شعر بدر شاكر السياب تحديداً ومن تابعه من شعراء الحداثة. كما يمكن أن يحيل العنوان إلى سفر (نشيد الانشاد) في الكتاب المقدس, الذي تم إدراجه في الكتاب المقدس في القرن الخامس قبل الميلاد من قبل الكاهن الشهير عزرا بعد عودة اليهود إلى أورشليم من السبي البابلي, وفي هذا النشيد شخصيتان أساسيتان هما شولاميت راعية الغنم (وهي مؤنث اسم سليمان: سليمى أو سلمى أو سلامة)، وسليمان الملك, وتدور القصة فيه عن حب سليمان لشولاميت، فيما يضيف آخرون شخصية ثالثة إلى الشخصيات الأساسية، وهي شخصية “الراعي”- غير المذكور اسمه- الذي يتبادل الحب الصادق مع شولاميت، التي لا تفلح كل إغراءات الملك سليمان بفك عراه الراسخة وانتزاع هذه الحسناء من حبيبها، والعبرة من القصة برأي بعض الباحثين هي الوفاء في الحب.
أما الشخصية الرئيسة في (نشيد القيامة) فهي شخصية العاشق المهاجر أبداً في بحر الزمن بين النار والحروب والسفر نحو المجهول :(جاءني صاحبي وأنا ألم الطريق الممزق) امرأة للعشق المؤبد.
(السفينة أبحرت وأنت وحدك في الشراع) الفقراء في زمن الحرب.
وقد تتوحد الشخصية مع شخصيات المعذبين والمقتولين في بلد لم يعرف السبيل إلى السلام: ((عدت من سبايكر دون رأس)) عودة.
ومن الملاحظ أن اللغة الشعرية لدى الشاعر مصطبغة بلون ديني واضح في تناص مع لغة القرآن الكريم في مواضع كثيرة:
(دع كفيك تقرآن صحف الغيب واصطحب في السير ناقة صالح)) وصايا.
((هذه أنت أم هذا الطوفان)) أنت فقط.
والدلالة هنا لا تتوقف على حدود الأسلوب اللغوي إنما تتعداه إلى المضامين الحكائية التي تتعلق بشخصيات وأحداث قرآنية تنطوي على ثيمة الصراع الرئيس بين الحب والكراهية، الحب بمعناه الكوني الذي يحقق السلام، والكراهية بمعناها الكوني أيضاً وما ينجم عنها من خراب ودمار، فهو صراع بين الرحمن والشيطان في جوهره العميق، والشخصية الرئيسة وهي تتنقل بين الأزمنة والأمكنة محطمة حدود التاريخ، وتتخفى خلف أقنعة شخصيات مختلفة، تظل في عمقها شخصية الجنوبي الحالم بالحب والسلام:
((احتفل بنار باردة وأنطلق نحو الجنوب أفتش عن عصابة أمي بين الحرائق الكثيرة)) بقايا حرائق.
في مقابلة الصورة الهشة المرسومة للزمن في هذه المجموعة ومن خلال الثيمة الرئيسة فيها القائمة على استعادة أسطورة الموت والانبعاث تقف صورة المكان المدمر، المرموز له بصورة الأم، والأم هنا صورة مجازية للوطن المدمر، الوطن الذي عانى أهله الشتات والحروب، ومع ذلك ظل بالنسبة للشاعر بمثابة الأم التي لا يستقر القلب إلا في أحضانها، فهو أرض الميلاد والموت والقيامة. وهكذا يكون الإنسان أقوى في وجوده من الزمان والمكان معاً، لأنه هو الذي يصنع الوجود من خلال إرادته الثابتة في صناعة الحب والحياة.