114 خطوة إلى الخلود.. مأثرة الشاعر موسى جليل وموته

حارس رينات
ترجمها عن الروسية: سمير رمان

في عام 1953، بمبادرةٍ من رئيس تحرير «ليتراتونيا غازيتا»، نُشرت على صفحات هذه الجريدة الأدبية قصائد رائعة للشاعر التتاري موسى جليل، الذي كان في عداد المفقودين وخائناً للوطن بسبب اتهامه بالتعاون مع المحتل النازي.
جاءت هذه المبادرة لتخبر العالم بمأثرة الشاعر المبدع والمواطن السوفييتي الشريف لتعيد له الاعتبار وليمنح لقب بطل الاتحاد السوفييتي عام 1956، وليحوز عام 1957 على جائزة لينين تقديراً لكتابه «دفاتر مو آيبتسك». في واقع الأمر، يعتبر حصول شخص واحد على وسامين من أعلى أوسمة الاتحاد السوفييتي حدثاً فريداً غير مسبوق.
على جبهات الحرب العالمية العظمى-في الخنادق والملاجئ، في البحار والسماء -كانت تُجترح يومياً بطولات ومآثر، ساهمت في تقريب يوم النصر الكبير. غير أنّ أعظمها كانت البطولاتٌ الجماعية، كمأثرة الأبطال المدافعين عن قلعة «بريست»()، التي كان يقود إحدى مجموعاتها المؤلفة من 12 رجلاً المراسل الحربي لصحيفة «أتفاغا»(*) الصحافي والشاعر التتري موسى جليل. في حزيران/ يونيو 1942 وقع موسى جليل في الأسر بعد تعرّضه، جراء انفجار قذيفةٍ بالقرب منه، لصدمةٍ أفقدته الوعي. اقتيد جليل إلى معتقل قلعة «دمبلين» في بولونيا.. كان النازيون يشكلون من بين الأسرى كتائب قوميّة: تركمانية، جورجية، أذربيجانية، أرمينية وغيرها، لزجِّها في القتال ضدّ أبناء وطنهم المنضوين في صفوف المقاومة العاملة خلف خطوط الألمان. بالطريقة نفسها، تمّ تشكيل فيلق «الأورال» من أسرى قوميات البشكير، التتار وما إليهم من شعوب الفولغا السفلية. خرج الفيلق في أولى مهامه القتالية في غابات منطقة «فيتيبسك» البيلاروسية، ليقوم أفراده، وبمبادرةٍ من جليل، بتصفية الضباط الألمان والالتحاق بصفوف المقاومة السريّة. تمكّن الألمان من كشف التنظيم السرّي، وألقي القبض على جليل، الذي زجّ به مع مجموعةٍ من رفاقه في أحد سجون برلين «مو آيبتسك».
قُدّم موسى ورفاقه للمحاكمة كمجرمين خطرين بتهمة «تقويض سلطة الرايخ، والتعامل مع العدو». وبشكلٍ سريع، صدر قرار المحكمة الفاشية بإعدام المتهمين بقطع رؤوسهم بالمقصلة.
عام ونصف العام قضاهما الشاعر في معتقله الرهيب، كتب خلالها جلّ قصائده التي كرّسها
«في حزيران/ يونيو 1942 وقع موسى جليل في الأسر بعد تعرّضه، جراء انفجار قذيفةٍ بالقرب منه، لصدمةٍ أفقدته الوعي» للحبّ وعشق الوطن. بضعة دفاتر ضمت أشعار جليل، وصل منها إلى موسكو عام 1946 اثنان بفضل أحد العسكريين. تضمنت الدفاتر 115 قصيدة. كما وصل دفتر ثالث من السفارة السوفييتية في روما، كان قد سلّمه لها سجين بلجيكي سابق ائتمنه عليه الشاعر في زنزانة السجن. فيما بعد عّرفت هذه الدفاتر بـ»دفاتر مو آيبتسك».
في الخامس والعشرين من شهر آب/ أغسطس، نُفّذ في سجن «بلوتيسينزه» حكم الإعدام. خلال نصف ساعة قطعت رؤوس خمسة من الأدباء التتار. لم يكن يفصل بين العملية والتي تليها سوى دقائق ثلاث، وكانت الرؤوس تفصل عن الأجساد أمام أعين من يقف في صفّ الانتظار. أمّا جليل فقد شهد مقتل أربعة قبله… كم هو صعب تصور الأفكار التي كانت تجول في رأس الشاعر وهو يرقب في تلك اللحظات هذا المنظر الشنيع؟ ولكن هل من الممكن أصلاً أن يفكر الإنسان في هذا الموقف الرهيب؟
مقتطفات من قصائد موسى جليل:

قلبي، في آخر نفس من أنفاس الحياة
يفي بقسمه الأكيد:
أغانيَّ مكرّسة على الدوام للوطن،
وها هو وقت التضحية بحياتي قد حان


أنشدت، وأنا أشتمّ نضارة الربيع
غنيت، وأنا في طريقي إلى المعركة فداءً للوطن
وها أنذا أكتب آخر أغنياتي
أرقب سيف الجلاد فوق رأسي
….. الأغنية، علمتني الحريّة
والأغنية، تأمرني أن أموت واقفاً
حياتي ترددت أغنيةً بين الشعب
أمّا موتي فسيدوّي نداءً للنضال!


اعذرني يا وطني
اعذرني يا وطني
يا من كرَّرت اسمه المقدّس وأنا ذاهبٌ إلى المعركة
اعذرني لأنني مع آخر أنفاسي
لم أضحّ بحياتي في سبيل مجدك


لم أجبُن وأنا أشهد القذائف تتنفجّر
لم أخف والرصاص كزخّ المطر
لم ترتجف روحي، وعلى مدّ البصر
جثث وأشلاء
وأرضٌ مضرّجة بالدماء


شبح الموت المُحتّم
يقترب منّي، صرخت:
خذني أيها الموت!
خذني، ولتنته حياة العبودية البغيضة!


ألست أنا من كان في أتون المعركة
أشعاره الملتهبة قسماً يقول:
أنا إن واجهت اليوم الموت
سأنظر في وجهه بغضب، وازدراء
وأبتسم في آخر ومضة بكلّ صفاء؟

() قلعة بريست: قلعة حصينة على الحدود السوفييتية الغربية. كانت من النقاط التي صمدت صموداً بطولياً في وجه القوات الألمانية. (*) أتفاغا: تعني البسالة والإقدام.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة