مواكبة الذاكرة الاولى في(مصل الجمال)

علوان السلمان

النص السردي..محاكاة الواقع بتناقضاته المؤطرة باطار الحياة..والمرتكز على الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية..ورؤى جمالية تثير الوجدان وتستفز الذاكرة..
وباستدعاء النص السردي (مصل الجمال..اولاد كلب) الذي افرزته ذهنية متفاعلة مجتمعيا ونسجته اناملها المتفاعلة وفعل منتجها عبدالزهرة علي..واسهمت دار لارسا في نشره وانشاره/2018..كونه نص يرتكز على الاغتراب الوجداني والمكاني فيكشف عن الانفعالات الانسانية والصراعات الذاتية والموضوعية تجاذبا وتنافرا..اضافة الى تميزه بعمق دلالته ومعطياته الانسانية وابعاده الفنية والجمالية..ابتداء من العنوان البنية النصية المكثفة..والعلامة السيميائية المكتظة بوظيفتها وطاقتها الدلالية المحركة للتأويل بابعاد انزياحية..والذي هو نتاج وعي فكري وجمالي معبر عن روح التمرد من جهة وكاشف عن مهارة ادائية واسلوبية من جهة اخرى..اضافة الى العتبات النصية الموازية التي هي ملفوظات اشارية وعلامات تشويقية تضفي على النص جمالية مضافة متمثلة في(اللوحة التشكيلية والوانها واسم الجنس المنتَج ومنتجه والتنويه الكاشف عن هدف النص(هدف روايتي على قول ميلان كونديرا لا يتمثل في ارباكنا بفكرة مدهشة..بل في جعل لحظة من لحظات الوجود صعبة النسيان وتستحق الحنين الذي لا يطاق..)..اضافة الى الفصول الرقمية الثمان والعشرين فصلا التي تستدعي المستهلك(المتلقي) لانتقاء وتثبيت عنواناتها والمشاركة في بناء النص..
(هكذا روى جدك عن ابيه…واضاف في يوم آخر أنه عاش وحيدا بلا أخ..اذ لم تنجب امه من بعده مولودا آخر..حرصت أم جدك على التعلم من جاراتها البغداديات شتى انواع التمائم والتعاويذ لطرد النحس والحسد…كان الرعب يجتاحها وهي تتذكر فقدان اولادها الاربعة قبله..أخذ جدك يحمل التمائم والرقى المثبته الى دشداشته وهو يذهب الى الكتاتيب..وعندما ترى امه أية علامة تعب او انطواء تأتي بصينية نحاسية كبيرة تمسكها احدى جاراتها من عروتين لها حتى تصب أم جدك الرصاص الذائب بالماء البارد من فوق رأسه تطرد السحر منه..وكم من مرة تأخذ الشكل المتصلب بالماء وتحدق فيه مليا ثم تصرخ هذه نوفة الحفافة او تصيح هذه كميلة ام الباقلاء او تتمتم بصوت خفيض هذه كرجية زوجة المختار وهي تريد احدى نساء المحلة التي اصابته بعين الحسد..) 12 ـ ص13..
فالسارد(المنتج) يستنطق الذاكرة والذات الجمعي في بناء المشهد الذي اعتمد على نوعين من السرد::اولهما السرد الاستباقي..وثانيهما السرد الاسترجاعي الذي ساعد على القبض على لحظات شاردة وهو ينفتح على عوالم(الحلم/ الواقع/اليومي/التاريخي..)..اضافة الى الحدسي..وهو يكشف عن الصراع الانساني والمكاني بالفاظ نابضة بالاحساس الوجداني..مع توهج وصفي متغلغل داخل دائرة(النفسي والاجتماعي والجغرافي..(اجتاحتني الافكار..ابحرت بي الى عوالم بعيدة..ازمنة أسبق مما يحكيه جدي في حكاياته التي تنقلها امي..بشعرها المصبوغ بالحناء وعينيها الشهلاوين ووجها المستدير..كانت تخفي اكتناز جسدها بثياب قاتمة..ونقاط نقش الوشم الخضر..على وجهها وصدرها التي ابقي ابحلق فيها حين تنزع فوطتها..أرى ان خيط الوشم يبدأ من حنكها نازلا الى رقبتها ينحدر تحت ثيابها الى مناطق لا اعرفها..) ص11..باستثمار بنية سردية تنزاح عن مسارات السرد الخطي من خلال التذكر والميتا من اجل خلق نص ينبثق من عمق الواقع المأزوم فيكشف عن رؤية المنتج(السارد) الاجتماعية التي تتمحور على مستويين مقترنين ببعضهما: اولهما..المستوى الحكائي وثانيهما الشعبي الكاشف عن بؤس الواقع باستخدام التقطيع المشهدي داخل النص مع اعتماد الحكاية الشعبية وتضمين الشعر الشعبي..(طرق اذني صوت امي وهي تردد موال بنغمة الصبا:
الناس بالزور والبهتان متعاملة
والحك من مات صار اليوم متعاملة
وشراف ناس الغضة بحشاي متعاملة
تسعر كما تسعر النيران بالنيات
هيهات شص الحرش ايصيد بنيات
رب العرش كدر الاعمال بالنيات
ويعاملك يا مسودن مثل ما تعامله /51
عبر مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية تعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهن السارد..مع اهتمام برسم الشخصية من الداخل للكشف عن البعد النفسي بتوظيف لغة تتداخل فيها العامية بالفصحى..فضلا عن توظيفه الميثولوجيا عبر (التعاويذ والتمائم) الطاردة للنحس والحسد).. للكشف عن شكل من اشكال الاسقاط النفسي وتصوير الهواجس الداخلية للشخصية بلغة بعيدة عن الاقتحام..نابضة بالحياة..تحمل موقفا ورؤية عميقة تتخطى المشاعر الى وصف الانفعالات والكشف عن المستور لانه يوظف السيميولوجيا لتغطية الجوانب المحيطة بالحدث بوساطة تكثيف التعبير والتعامل مع الاشارة الجمالية..فضلا عن المزاوجة بين السرد التاريخي والفني من خلال عملية التذكر( فلاش باك) والروي..(هكذا روى جدي عن ابيه..)..لاضفاء شرعية التحرك والتناغم والتصاعد في الحدث.. والزمن الذي يضفي فضاء مضافا للفعل والحركة..
(جاءت امي بصينية الفطور قمت من الكرسي وجلست قبالة المهبول وتناولنا الفطور سوية..وعندما وقعت عينا أمي على الطفل المقرفص قريبا من المهبول قالت:ـ يمه اكل وياهم..
صرخ المهبول بوجهها…لا ..لا
فزعت أمي من صراخ المهبول واستدارت لتخرج..لكن المهبول أردف بما يشبه الاعتذار..آني راح أنطيه لفة..
اندهشت من ردة فعل المهبول وقلت له:لماذا لا يأكل معنا؟
رد علي وهو يضم ساقيه تحت عجيزته..
ـ استاذ..آني راح اكلك حقيقة..واني راح اخسر من وراها جزءا مني..وربما تسأل لماذا افشي لك سرا أحتفظ به لنفسي..أقول لك أني عرفت بأنك تكتب رواية عن حي المتجاوزين وكي تكون روايتك حقيقية وصادقة أفشي لك سري..هذا الطفل..هو المولود الذي جاء نتيجة اجراء العملية للكلبة في قاعة هيكل المشفى وقمت بتربيته.. له القدرة على التحول..والميزة الاكثر اهمية انه وحده يعرف ابناء جنسه..يعني اولئك الذين يتجولون مثله..وعندما تعرف الحقيقة سوف يغيب عنا ولم نره بعد ذلك قط..لقد اخبرني ان(جلاب) والضيف الذي جاء الى مدينتنا وصاحبه الهزاز كلهم من فصيلة واحدة..وقد قام هذا الصبي زيارة الكثير من النساء..وقد لقح بويضات كثيرة بحيامنه..ولهذا فقد ولدن الكثير من فصيلته التي لا تنقرض ابدا..فغرت فاهي وانا استمع اليه..وعندما التفت الى الطفل رايت الطفل(رايته)يتحول الى جرو وهو خارج ينسحب متسللا من فتحة الباب..سحبني من اندهاشي صوت المهبول يقول لي(سوف يقتلوني..لقد افشيت سرهم)..أومأت برأسي وانا اصدقه القول..صحت بصوت عال (اللعنة أولاد الكلب) ص140 ـ ص141..
فالنص يفسر الحياة ويصور صراعاتها بالفاظ رامزة تنبض بالاحساس الوجداني المتغلغل داخل دائرة(النفسي والاجتماعي)..باعتماد المدلول التقني الحواري بشقيه الذاتي(المنولوجي)..الذي هو حوار النفس والذات..والحوار الموضوعي(الواقعي) الذي هو حوار الشخوص وغياب الراوي العليم..الذي يبني نصه برؤاه وادواته الفنية واشعاعه الفكري وتوغله في عوالم بيئية ومجتمعية مع تنامي درامي يعبر عن حركة الحياة..باعتماد الرؤية من الخلف..اذ الراوي العليم هو الذي يتحكم بالسارد المفترض بذكائه وبصيرته..لتقديم نص يمتلك القدرة على استعادة الاحداث المضمرة التي اختزنت في الذاكرة المنتجة حتى صارت مصدرا لانتاج سردية مشحونة بالصور والمواقف التي تمزج بين ماهو ذاتي وما هو موضوعي..مصدرا التجاذب والتنافر..
وبذلك قدم السارد نصا مكتظا بعناصر تكنيكية.. الزمن والحركة والحدث.. فضلا عن العاطفة التي تنطلق من بين ثناياه..اضافة الى توظيف بعض التقانات الفنية والاسلوبية التي تسهم في نمو النص تصاعديا واتساع مدياته..كالتنقيط الذي يمنحه بعدا نفسيا وسوسيولوجيا كونه قيمة وجودية تستدعي المستهلك لاملاء فراغاته..مع تمثيل عنصر الايحاء عبر لغة موحية وفكرة مركزة..ونسج سردي متماسك خاضع الى عنصرين اساسيين: اولهما البناء النسقي الانساني..ثانيهما التفاعل والانسجام من خلال مستويي القراءة والتأويل..ومن ثم الارتقاء الى مستوى رؤية تيار الوعي(تداخل الامكنة والتداعي والخيال..)..اضافة الى مواكبة المنتج للذاكرة الاولى واعتماد لغة تجمع ما بين اليومي العامي والفصيح في حواراتها.. فكان نصا(يعالج الحياة التي تبقى سرا) على حد تعبير فرانك اوكونور…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة