ما بعد الحداثة في العراق !

ربما كان البرم بأحادية القرار، وهيمنة المركز، وظهور الفرد الإله، هو الذي حدا بنيتشة وسواه من مفكري الغرب، إلى إعلان عصر جديد، تذوب فيه الموجودات مع بعضها، وتتلاشى العلة الأولى في ما سواها، وتستقل الظواهر الكونية عن غيرها. وهو النظام الذي أطلق عليه لاحقاً اسم ما بعد الحداثة.
في هذا النظام الدائري الذي «تشبه قمته قاعدته، وأسبابه نتائجه، وهوامشه مركزه» لا يوجد ما هو أعلى وما هو أدنى، ولا ميزة لطرف على حساب طرف، ولا سلطة لمحور على وجود محور. بل تجري الأمور فيه بعشوائية، ويختفي اليقين داخله بقوة. وتتهاوى المثل بين جوانبه دونما وعي.
في ما بعد الحداثة تتلاشى القوانين التي تحكم العلاقات بين الأطراف، وتتضاءل القوى التي تدير عملية إنتاج المعنى. ويصبح كل ما كان ممنوعاً، قابلاً للمراجعة. وينتهي النظام الأبوي إلى غير ما عودة.
في إحدى المرات تساءل شاعر عراقي مغترب عن جدوى الترويج لمبدأ ما بعد الحداثة في هذه البلاد، وهي التي لم تنعم إلا بقدر يسير من الحداثة. فقد كان على النخبة في رأيه أن تبدأ بالتسلسل المنطقي للحوادث، لا أن تقفز على المراحل، وتتعالى على التاريخ، فهو أهم شروط النجاح، وأول قواعد التغيير.
غير أن الواقع لا يؤيد مثل هذه النظرية، ولا يتبنى مثل هذا الفهم. فما بعد الحداثة لا تحتاج إلى تمهيد، ولا تشترط قاعدة ما. وهي تكاد تكون منبتة الجذور عن التراث، منفصلة تمام الانفصال عن الماضي.
بل إن وضع العراق السياسي والاجتماعي، هو الأقرب الآن إلى ما بعد الحداثة، وإن كان هذا ليس علامة جيدة. فالعراق الآن ليس فيه مركز، ولا أطراف، ولا قمة، ولا هامش. وكل هذه الدوال هي قوى متوازية تمتلك قوانينها الخاصة التي تجعلها تتمتع باستقلال ذاتي ملحوظ.
لقد تبدد على حين غرة الكثير من القيم والمعايير الأخلاقية، بعد أن بات غير ذي جدوى. وحل بدلاً عنه فيض من الثقافات الوافدة التي لا تمت للتقاليد المجتمعية بصلة. وتجعل كل شئ لديها خاضعاً لميزان العلاقة مع الخارج.
في تجربة ما بعد الحداثة التي تخوضها هذه البلاد، وتتبنى فيهاً مفاهيم وافدة مثل الفوضى والارتباك واللادولة، انتهى عصر الحاكم الإله، الذي يأمر فيطاع، ويسأل فيجاب، ويقرر فتنصاع له العامة.
ما ينتج الآن في الفن والأدب والعلم والثقافة والإعلام هي إنجازات ما بعد حداثة بالفعل، لكنها لا ترقى إلى ما بلغته السياسة من مستويات، ولا إلى ما وصل إليه الاقتصاد من مآل، ولا إلى ما انتهى إليه المجتمع من سمات. فقد انتظم فيها كل ما هو غريب ونادر، وتوافر لديها كل ما هو جديد وغير مألوف، واجتمع عندها كل ما هو معقد وشائك. وهذه هي كما لا يخفى بعض ملامح النظام العالمي الحداثوي الجديد!

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة