بين الإماتة والتماوت

-1-
الإماتة تعني إصدار الحكم على انسان معيّن بالموت ليفقد حياته وينتقل الى العالم الآخر
أمّا التماوت فهو التظاهر بالزهادة والعبادة والخشوع والورع … حدّ الموت ..!
وشتان بين الحالتين، ذلك أنّ اصدار القرارات على الآخرين بالموت ، يكشف عن قلب قاسٍ، وغلظة كبيرة،ونفسٍ مسكونة بالهواجس والأحقاد، وقلة مبالاة بمرحلة ما بعد الموت واهوال الحشر والنشر والحساب العسير
إنّ التلذذ بالدماء انما هو هواية الطغاة المفضلة ، ولعبتهم المعروفة مع خصومهم الوهميين فضلاً عن خصومهم الحقيقيين .
أما التماوت فهو شأن أهل الدجل والحيل سواء كانوا من الحكام أم من غيرهم …!!
انّ من أكبر مصائب هذه الأمة ان السلطة ظلت محصورة لقرون عديدة
بيد من يتوارثونها بينهم، حتى كأنها شيء من أشيائهم ..!!
-2-
وأول من ابتدع هذه البدعة هو (ابن هند) – آكلةِ الأكباد –فآلت بعده الى ولده الفاجر الخليع الذي لم يطو ضلوعه الاّ على الأحقاد (يزيد بن معاوية) .
وهكذا أصبحت الخلافة الاسلامية – وهي أعلى منصب ديني ودنيوي – كرةً يتلاعب بها الصبيان .
-3-
ولا نريد الآن أنْ ندخل في تضاريس تلك الحقب الملأىبالمفارقات العجيبة والممارسات الغريبة، ولكننا نريد أنْ نقف قليلاً عند ظاهرة معّينة وهي ظاهرة المسرحيات المدروسة التي كان يُمثلها الحكّام أمام الناس ، كلما دخل عليهم واعظ شهير، أو ساروا نحوه طالبين منه الوعظ والارشاد !
انها مسرحيات مدروسة لأن الساعين الى (الوعاظ) يلتمسون وعظهم وارشادهم كانوا لا يتورعون عن إراقة الدم الحرام لا لشيء يستوجب سفك الدماء ..!!
وهنا يكمن الدس والتحايل والضحك على الذقون ..!!
فلو كان هذا الحاكم الساعي للإفادة من الواعظ صادقاً مع نفسه ومع ربّه لما اختار الفتك بالاخرين لأتفه الاسباب ..!!
أين الورع المزعوم ؟
وأين الخشية من الله ؟
وأين التَحرج في الدين ؟
انها ُمّدعيات محضة لا أساس لها على الاطلاق .
نعم
انهم كانوا يتظاهرون بالتأثر بالمواعظ والتفاعل معها الى الحدّ الذي يُخشى عليهم منه ..!!
وكانت (الحواشي) لا ترتضي من الوعّاظ أن يشدّدوا كثيرا على الحكّام
أما السبب :
فهو إنهم قمم العدل ..!!
واليك ما نقله التاريخ عن (هارون) وعن الفضل بن الربيع –كبير العاملين في بلاطه
– دخل ابن السمّاك – وهو واعظ شهير – على هارون فقال له عظني ، فقال :
اتق الله واحذره ..
واعلم انك واقف غداً بين يدي الله ربك ثم مصروف الى احدى منزلتين لا ثالث لهما :
جنّة ونار
فبكى الرشيد حتى اخضلت لحيتُه بالدموع ، فأقبل الفضل بن الربيع على ابن السمّاك معاتبا وهو يقول :
سبحان الله
هل يخالجك شك في أنّ امير المؤمنين مصروفٌ الى الجنة ان شاء الله ، لقيامه بحق الله ، وعدله في عباده ؟
انّ خطر الحواشي لا يقل عن خطر الجراثيم المهلكة ..!!
انهم يوهمون أسيادهم بأنهم الناجون من كل التبعات والمسؤوليات، مع أنهم أكبر المسؤولين عن كل ما تتعرض له البلاد من مخاطر ، والعباد من مظالم وجرائم …
وهذا الخطر مستمر في كل عصر ومصر ..!!
قال تعالى : ( وقفوهم انهم مسؤولون )
ولم يشأ ( ابن السماك) ان يسكت فقال لهارون وهو يشير الى الفضل :
” انّ هذا ليس واللهِ مَعَكَ ،
ولا عندكَ في ذلك اليوم ..،
فاتق الله وانظر لنفسك “
فبكى الرشيد بكاء مُرّا حتى اشفق الحاضرون عليه ..!!
وذات يوم ذهب (هارون) بنفسه الى (الفضيل بن عياض) وهو واعظ شهير ايضا – يزوره فابتدأ الفضيل مواعظه مع هارون ، وتضمنت مواعظه الشيء الكثير من التخويف ..، فبكى الرشيد حتى أغمي عليه فلما أفاق من الاغماء قال للفضيل :
(زدني) فزاده ، فاغمى عليه ثانيا وتكرر ذلك في مرة ثالثه …
وفي آخر مرّة قال للفضيل :
هذه ألف دينار خذها لعيالك وتَقوَّ بها على عبادة ربك ..
أرأيت كيف أتقن (هارون) تمثيل دور الخائف الخاشع من ربه ، والمشفق على الواعظ من الفاقة والحرمان ؟
والسؤال الآن :
من هو الذي أمر بايداع الامام الكاظم- موسى بن جعفر –عليه السلام في غياهب السجون مُقيدّاً بالسلاسل والأغلال ؟
ثم أمر بدس السُمّ اليه في نهاية المطاف ؟
ان تلك الدموع لم تكن الا دموع التماسيح …
-4-
وقد يقال القائل :
هذا ما كان يجري في العصور الماضية فماذا عن الحكّام في مرحلتنا الراهنة ؟
والجواب :
انهم ورثوا عن أسلافهم تلك القدرات الهائلة على التضليل والتمثيل والدجل والمراوغة، باستثناء فارق واحد وهو أنهم لا يطلبون الموعظة من أحد ..!!
لأنهم فوق أن يوعظوا ، لبلوغهم أعلى درجات النزاهة ..!!
مع ان ممتلكات بعض السلطويين في (العراق الجديد) فاقت بأرقامها الفلكية كل الأرقام المعهودة عند أسلافهم ..!!
انّ التظاهر بالتدين هو القاسم المشترك بين الماضين والمعاصرين ، والدين برئٌ من ألاعيب الفاسدين المفسدين ، ومن كلّ المخادعين .

حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة