بحثًا عن الحقيقة في ميدانيها النقدي والأكاديمي

أ.د. نادية هناوي

نشرت جريدة الصباح الجديد الصادرة يوم الأثنين 4 /3/ 2019 مقالة بعنوان ( في المتوالية القصصية من أجل رفع اللبس الجزء الثاني) للدكتور ثائر العذاري، وكما قلت في مقالي السابق فإن هذا ليس ردأ وإنما هو ايضاح وتصحيح.
من ميزات الحقيقة أنها واضحة لا تحتاج إلى من يلقي عليها ضوءًا، فهي مضيئة أصلًا، لذا تغدو محاولة تلفيعها بلثام بقصد تقليل وهجها مثل محاولة من يريد حجب الشمس بغربال. ولأن الحقيقة هي مرادنا ومقصدنا لذا أعيد هنا مجددا القول بإن حقيقة المتوالية السردية أو القصصية ـ علما أن لا فرق بينهما في أدبيات الدرس النقدي ما بعد الحداثي لكن الدكتور العذاري يسعى الى أن يوجد فرقا بينهما كثغرة ينفذ منها إلى ما يرمي ـ أنها اشتغال فني عرفته القصة القصيرة منذ بواكير كتابتها وليست جنسا أدبيا.
وبدلا من انتهاج حوار موضوعي يترفع عن الألفاظ الخارجة عن صلب الموضوع، راحت العبارات والاوصاف تمس صاحبة المقال وليس المقال نفسه، فضلا عن التخطئة سلفا ومن قبل أـن تبدأ المقالة أصلا مع استعمال عبارات غير لائقة هي تعويض عن فقر الحجج، وتناقض الاغراض متنا وعنوانا.
وعلى الرغم من التحامل الذي اتسمت به مقالات الدكتور العذاري كالمعتاد؛ فانني أجد أن الهدف الذي سعيت إليه قد تحقق. وها هو قد سلّم بحقيقة التوالي التقانية داريًا أو غير دارٍ، حين حرف الاشكالية النقدية صوب الترجمة موجها نظره نحو( المنظومة النقدية العربية التي لم تجد وسيلة للاتفاق على المصطلحات.
ولن أقول أكثر مما كنت قد قلته ف( المتوالية السردية ) the narrative sequence مفهوم تقاني لا اجناسي ويضاده ( anti – sequence ) ضد المتوالية الذي وضعته سوزان فرجسون مؤكدة أن أساس حداثة القصة القصيرة بدأ مع حكايات كانتربري وديكامرون ثم تطور على يد جورج مور وشيروود اندرسون وفوكنر الذين كتبوا كلاسيكيات القص. ومع همنغواي وقصصه (في زماننا) أصبحت القصة القصيرة أكثر تعقيدا لأنها غدت تهتم بالواقع والأفراد الهامشيين. وكانت جينفر سمث قد اقرت أن القصة القصيرة نوع ذري؛ سواء سميت فسيفساء أو هجينا أو رواية في قصص أو قصصا في رواية، فكلها تحمل بصمة دورة القصة القصيرة. وتنقل سمث عن ساندرا زاجرك تسمية هذا التوجه في القص باسم (سرديات المجتمع) التي تقدم استجابات المجتمع الثقافية والاجتماعية والديمغرافية والصناعية وانتشار التعددية المدمرة للاكتفاء وسلاسل التاريخ الخاصة العرقية والاخلاقية والعلاقات الجندرية والمعايير الجنسية وعوامل اخرى تتشكل منها مؤكدة بن التفكك سيوصلها الى اللانوع unclassified . هذا فضلا عن مصطلحات اخرى ما كان لي أن أقف عندها لولا أنها كلها تعني عند الدكتور العذاري (متوالية قصصية) من قبيل successive stories أو successive anecdotalأو stories sequence، والامر نفسه يقال مع (متوالية القصة القصيرة) Short story sequence أو (القصة القصيرة الحلقة ) short story episode التي هي غير تركيبة( دورة القصة القصيرة) short story cycle أو القصص المجموعة Stories Collection أو مجموعة القصص Collection of Stories أو مجموعة سردية Narrative groups أو تشكيلات القصة Story Formations أو تشكيلات سردية Narrative Formations.. التي تناولتها طروحات النقاد ما بعد حداثية كنتاج لمقولات التهجين واللانوع والتداخل الاجناسي وليس نتاج التبشير بالمتوالية كما ذهب الدكتور العذاري.
ولم يوافق لوشر في كتابه ( The short story sequence; an open book ) انجرام وصفه القصة القصيرة بالحلقة، نظرًا لعلاقة القربى الوثيقة بالحلقات الملحمية ومتوالية السوناتا الشعرية. والذي ينتهي إليه لوشر هو أن وضعية القصة القصيرة بوصفها جزءًا دالًا من كل متطور لا تدمر استقلاليتها وإنما هي توسع من وظيفتها ودلالتها داخل كتاب مفتوح.
وكانت جانت هولست قد درست التركيب البنيوي للتوالي السردي، وانتهت إلى أن القصة القصيرة في تواليها تتخذ الوضعية البنائية التي يمثلها المخطط الآتي:
حالة من النقص
إجراء تحسين إجراء انحلال
حالة من القبول
وبهذا يظل مجال الاجتراح في بنائية القصة القصيرة متاحا بسبب سيولة هذا النوع من القص الامر الذي يسمح بالتداخل بأنواع أخرى أو بالتداخل داخل النوع نفسه.
ولا خلاف أنّ التوالي كطرح فلسفي يعود الى ما قبل ارسطو ويصل الى السومريين. وهو ما أدلت به الباحثة اشبيليا الجبوري في تعقيبها النقدي على مقالات المتوالية في موقع الناقد العراقي، مبينة جينالوجيا التوالي الفيزيائي وهي التي وصفت أحدى مقالات الدكتور بالقول:( بهلوانيات وألفاظ خاويه لا حيوية فيها لا تنفع المجال الأدبي والعلمي…) فضلا عن تعليقاتها وتعقيباتها الأخرى التي سيجدها القارئ على موقع الناقد العراقي ومنها تصحيحها للناقد حول ترجمة(القصص القصيرة أو سلسلة/مجموعة قصصية) مما كنت قد صححته له سابقا في مقالة أخرى، لكنه لم يرد على الجبوري، فلماذا ؟!
أما كتاب (نظريات السرد الحديثة) لوالاس مارتن فإنه يحسم أمر المتوالية كتقانة، واصفا إياها بأنها مجموعة أحداث بعينها يتم التلاعب في تسلسلها على مستوى الحبك.
وهو يرى أن التعامل مع السرد يقع في ثلاث مجموعات: 1) متوالية من الاحداث 2) خطاب ينتجه سارد 3) نتاج اصطناعي ينظمه قراؤهُ ويمنحونه معنى، مؤكدا أنّ التنويعات السردية التي نشأت عن قصة مثل ساندريلا تعدها بربارا هيرنشتاين سميث (متواليات سردية) وقد قامت بتحليلها بنيويا كنوع ذري فيه القصة هي النواة التي تعبر عنه البنية الشجرية.
وتدلل هذه الترجمة على وعي د. حياة جاسم بالأهمية التي ينطوي عليها هذا الكتاب. ولأن هذا الفهم لا يتوافق مع ما يريده الدكتور العذاري من المتوالية وهي أن تكون جنسا؛ لذلك سفه عمل الدكتورة حياة جاسم، مقللا من فاعلية جهدها الترجمي.
أمّا الادعاء بأن هناك الآف المتواليات ومئات الدراسات فانها وبغض النظر عن المغالاة في هذه الارقام، دليل اختلاف نقدي وليس توافقًا. وقد خصصت لهذا الاختلاف مقالات تصب في باب نقد نقد المتوالية السردية وهي منشورة وبإمكان القارئ العودة إليها وفيها بينت أن ترجمة المتوالية ليست بالشكل الذي يحاول الدكتور العذاري جرها اليه، فمفردة( المتوالية ) في اللغة الانجليزية واحدة، سواء أُضيفت إليها صفة السردية أو أضيفت إليها القصصية لإنها تبقىthe narrative sequence . كما توصلت إلى أن النقاد الامريكان هم الاكثر استشكالا في موضوعة التسمية للقصة القصيرة، ولعل آخرهم جينفر سمث التي حاولت إثبات تسمية دورة القصة القصيرة(short story cycle ) وليس المتوالية(narrative sequence )، فدرستْ تاريخ( دورة القصة القصيرة) معبرة عن المخاوف المرافقة لكتابة هذا النوع من القص من ناحية علاقتها بالنص أو علاقتها بالقارئ، معللة كتابتها تعليلا ثقافيًا، فالوحدة التي يفتقدها المجتمع الامريكي هي الوحدة التي تبحث عنها دورة القصة القصيرة نفسها، من قبيل ما يعتري العلاقات الاسرية والمجتمعية من التفكك. ولقد قاربت بين دورة القصة القصيرة والمدن الصغيرة ذات الطابع الفقري. فكيف بعد ذلك كله، يستقيم الإدعاءأن كتاب جينفر سمث( دورة القصة القصيرة الامريكية 2018) ( أول كتاب أثبت كون المتوالية جنسًا أدبيُا ) ؟!!
علما أن الفهم للمتوالية بوصفها نوعا يكتب كعنوان على الغلاف، هو فهم ابتداعي شخصي جربه القاص المصري منير عتيبة، وطبعا هذا من حقه كمبدع والابداع لا يكون ابداعا من دون تحرر يسمح بالتجريب والابتكار، لكن البت في صحة الابتكار في التسمية أو عدمها مرهون بالجهاز الاصطلاحي والمفهوماتي للنقد الادبي الذي له وحده الأحقية في أن يختبر المسميات، ناهيك عما للترجمة ايضا من أهمية في جعل مصطلحات النقد مقننة ودقيقة.
وكان د. عبد الرحيم الكردي في كتابه( قراءة النص) 2013 قد وقف عند قضية تهجين النوع الأدبي في القصة القصيرة، متخذًا من (مرج الكحل) لمنير عتيبة 2005 مثالًا على ذلك.
وجدير بالذكر أن القاص يوسف الشاروني في كتابه( القصة تطورًا وتمردًا) أشار إلى أن الالتفات عند كتّاب القصة المصريين ظل موجهًا نحو المضامين وليس التطور الفني في الأشكال. ونستطيع أن نستنتج من قول الشاروني هذا سبب تقدم القصة العراقية فنيًا لأنها اندفعت في طريق تطوير الأشكال الفنية.
مجددا أقول إنَّ الحوار الأكاديمي الصميم والصادق هو وحده الموصل إلى الحقيقة، وحواري لا يتقصد أحدا ولا يخص أفرادا بعينهم؛ بل هو يدور في ما يهم العموم النقدي والثقافي والاكاديمي العراقي. وإني لأرجو أن يكون هذا المقال كافيًا للايضاح، وأن يكون دعوة لاستماع رأي ثالث محايد وإنهاء محمومية السجال التي قد تحيد بالآراء عن العلمية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة