عنان بركات:
ظهرت السينما الفلسطينية ما بعد نكبة 1948, وبالرغم من الشتات الفلسطيني إلا أن الفلسطينيون نجحوا في إنشاء وحدات سينمائية عملت على إنتاج أفلام خاصة في فترة ما بعد الستينات، ارتبطت بمجملها بالثورة الفلسطينية، منها مؤسسة السينما الفلسطينية ووحدة السينما التابعة لقسم التصوير الفوتوغرافي في فتح وجماعة السينما الفلسطينية. هدفها تصوير الفلسطيني الجديد ووضع قضيته تحت انظار العالم، وبرز في تلك الفترة مجموعة سينمائيين منهم، مصطفى أبو علي, سلافه جاد الله ، وهاني جوهرية.
في عام 1969 حدث أول تحول نتج عنه ظهور الجيل الأول للسينما الفلسطينية، من خلال فيلم «لا للحل السلمي» الفيلم الفلسطيني الأول الذي كان بمثابة مشروع سينمائي فلسطيني يحمل رؤية فنية وفكر سياسي مستقل غير خاضع لأجندة سياسية معينة.
التحول السياسي بين صفوف منظمة التحرير ساهم في زعزعة الموقف الفلسطيني ولا شك الموقف الفلسطيني السينمائي التوثيقي كذلك، فوحدة التصوير الفوتوغرافي ووحدة الأفلام والسينما قامت على أساس سياسي أولاً من قبل المنظمة، وأدت هذه الزعزعة الى عدم الحفاظ على الرؤية سينمائية الثورية التي كانت قد بدأت بالنمو خارج الإطار السياسي, كما وردت منذ بدايتها كسينما ثورة أو وحدة توثيق المشهد الفلسطيني السينمائي من قلب الحدث, ولربما كان لتنازل الذي قدمه مصطفى أبو علي جاء بسبب فقدانه الحماية اللازمة أو المؤسسة التي ترعى هذه الرؤية السينمائية, وأدى فيما بعد الى تفرق أعضاء المجموعة مثل، سلافة جاد الله وهاني جوهرية, وهذا التنازل التدريجي قد أضعف العمل السينمائي الفلسطيني وأعاده عشرات السنين الى الوراء.
بعد ذلك جاء أمل سينمائي جديد في الأجيال التي أتت بعد تأسيس السينما الفلسطينية من صناع الأفلام والقائمين على إنتاجها والتحول الذي حدث بعدها ، ولكون الفيلم الفلسطيني مرتبط دائما بالقضية السياسية والهوية الفلسطينية، ظهر تعدد في الصياغة واختلاف القالب السينمائي الفني أو الأجندات السياسية من فيلم لأخر, ونرى حتى يومنا هذا أن كل فيلم فلسطيني عليه أن يحتوى مضامين سياسية واضحة الملامح في النص والصورة, لكن منها المبطن والرمزي كأفلام إيليا سليمان ومنها الأكثر وضوحاً كأفلام هاني أبو أسعد. هنا يمكن استثناء بعض الأفلام التي تنتمي فعلاً ل «الموجة الجديدة في السينما الفلسطينية» التي كسرت المسلمات بشكل كبير ووضعت الحواجز والقضية السياسية والهوية الجماعية في «بطن» العمل السينمائي وأحدث بعض المخرجين التجديد الحقيقي في تغييب الرموز الفلسطينية المتعارف عليها وإحضار رموز جديدة فيها نوع من التركيز وتسليط الضوء على الهوية الفلسطينية للفرد مرفقة بالأحلام والطموح لبناء مجتمع فلسطيني متنور وحالم رغم السياسة الإسرائيلية العنصرية الدائمة، وهذا ما فعله المخرج شادي سرور في فيلمه الأول «حاسة الحاجة» وفيلمه الثاني «هواء مقدس».
دخل هذا التحول بين السياسية والعبثية بقوة وبدون تنظير أكاديمي جدي كما فعل بعض السينمائيين العالميين أمثال جان لوك جودار وزملاءه في «موجة السينما الفرنسية الجديدة» بأنهم صنعوا سينما وكتبوا من حولها فأصبحت حركة فكرية متينة أولاً ثم حركة إبداعية سينمائية تحمل قضية.. وهذا الخطأ الثاني الذي فعله المخرج ميشيل خليفي أنه لم يكتب عن أهمية العمل الفلسطيني السينمائي المستقل الأول مقابل حركة التأريخ الفلسطيني وما حدث مع مجموعة السينمائيين الفلسطينيين في بيروت وتفكك الرؤية السينمائية والسياسية، ليحدث هنا شرخ حقيقي داخل السينما الفلسطينية وبين أفرادها ويتطور الانقطاع حتى يصل الى الأجيال اللاحقة.. فتُحدث الحركة السينمائية قلقاً فنياً وسياسياً يمتد حتى يومنا هذا وقد انبثقت منه حركة سينمائية برجوازية بلغتها الفنية, وأنثروبولوجية بنظرتها على المكان والإنسان الفلسطيني.. ولا شك أنها ليست مستقلة لأنها لم تتعامل مع التمويل كشيء هامشي وعديم الأهمية فالمخرج الفلسطيني حتى اليوم يريد تصوير فيلمه بأحدث المعدات وجماليات متعالية عن الحد الأدنى وهو ما يحدث تناقض مع لغته السينمائية لاحقاً.
تأسس الجيل الثاني للسينما الفلسطينية بسرعة كبيرة جداً خلال أقل من عشر سنوات فيستمر المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي بالعمل السينمائي من خلال فيلم «معلول تحتفل بدمارها» عام 1985 وفيلم «عرس الجليل» عام 1987 ويعتبر أول فيلم روائي فلسطيني، وتظهر الشراكة الفعلية في هذه الأعوام مع المنتج والمخرج جورج خليفي الذي سيبرز على مدى الأعوام القادمة بعيداً عن رؤية مؤسس السينما الفلسطينية مصطفى أبو علي الذي صرح خلال لقاء معه عام 2008 «علينا كفلسطينيين أن نبحث عن لغة سينمائية خاصة فينا، يمكن تلخيصها سينما الشعب من أجل الشعب, وكان هدفنا أن نصنع سينما بسيطة وعميقة في اَن واحد, سهلة الفهم وجميلة أيضاً». هذا الشرخ يجعل أجيال السينما الفلسطينية غير متواصلين بأفلامهم وإنتاجاتهم كي يكون الجيل الذي سبقهم مدرسة مهمة رغم النقد والتحفظات, مدرسة تحثهم على الاستفادة الثقافية الفنية والسياسية كما يحدث في تطور طبيعي لدى أي سينما عالمية تتعاقب بها الأجيال رغم اختلاف وجهات النظر والنقد والصراعات لكنها تكون في إطار تطور سينمائي دائم يعتمد فيه كل جيل على ممارسات وأعمال وفلسفة من سبقوه ثم يتم القرار بتحطيم معاييرها أم السير في طريق مختلف وما حجم التوافق والضدية. في بداية التفكير بمشروع سينمائي مهم يخدم تطور السينما الفلسطينية بأجيالها وبعد استشارة مصطفى أبو علي قمت بوضع عدة نقاط لصناعة «سينما فلسطينية جديدة»، كي يتم فهم وضع السينما الفلسطينية .
- كسر النمطية والأفكار المسبقة للشخصية الفلسطينية في الفيلم.
- عدم ترسيخ المكان كعامل فلسطيني مركزي في السينما.
- تحديد الوجود الفلسطيني حسب السياق الاَني وليس ردة فعل للماضي.
- الخروج من الذاكرة الجماعية التاريخية الى حيز الإدراك الجدلي.
- تغييب النراتيف (الرواية الفلسطينية الكلاسيكية) داخل الفيلم والسيناريو.
- تحويل «منظومة الحزن الفلسطيني”.
- الجماليات/الإستاتيكا الفلسطينية بنظرة من قلب المجتمع وليس بمنظار أنثروبولوجي.
- استعمال الحد الأدنى من المواد الإنسانية والتقنيات السينمائية لتنفيذ الفكرة.
- النقد الذاتي كمركٍب أساسي للتعمق في الرواية الفلسطينية ووضع فكرة جديدة.
- عدم ترسيخ الرموز الفلسطينية كعامل مركزي في الفيلم.
اختلف بعض المخرجين وصناع السينما الفلسطينية معي على أن السينما الفلسطينية تتأرجح ما بين العبثية والسياسة, فقد يقول بعضهم أن السينما الفلسطينية بخير ومستمرة بالعمل والإنجاز بدون مدرسة أكاديمية او تنظير علمي لمركباتها, لكن مؤسس السينما الفلسطينية مصطفى أبو علي لم يوافق على ذلك رغم أنه بارك كل عمل سينمائي فلسطيني لكنه كان قلقاً على السينما الفلسطينية حتى في اخر ايام حياته, لأنها دخلت مرحلة ما بعد الحداثة خلال وقت قصير وبسرعة دون أن تمر بتطور ثقافي طبيعي, ومسار تطورها كان سياسياً ومرتبط بالمتغيرات السياسية المباشرة والغير مباشرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية بمكانها وإنسانها.
- مخرج وكاتب فلسطيني