رجب أبو سرية
لن يمر الكثير من الوقت، حتى يدرك الشعب الأميركي أن كل ما حققته بلاده من تفوق ومكانة عالمية بعد انتهاء الحرب الباردة قد تبدد في الهواء، بل ربما أن الأسوأ هو الذي تحقق خلال أقل من عامين من تآكل وتراجع لتلك المكانة، والسبب يعود إلى سياسة الرئيس الأميركي الخامس والأربعين وطاقمه الرئاسي، خلال أقل من عامين مرا على وجوده في البيت الأبيض .
العقلاء فقط هم من يقرأون ما هو مقبل مما هو قائم من معطيات ومقدمات، والمقدمات التي أحدثتها إدارة ترامب منذ توليها الحكم في الولايات المتحدة، تشير بكل وضوح، إلى أن سياستها الخارجية لم تنقلب رأسا على عقب وحسب، بل إنها تثير دائرة الخلاف والاختلاف وحتى العداء مع معظم العالم الخارجي، وهذا كلام لا نلقي به على عواهنه، أو من دون تفكير أو حتى بتسرع أو ما إلى ذلك، بل إن أكثر من جلسة لمجلس الأمن، أو حتى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، خير دليل على ما نقول، حيث ظهر ممثلو الولايات المتحدة، منفردين ومختلفين مع معظم العالم، ويكفينا أن ندلل على ذلك بأن أول مرة يحدث فيها أن تمنع واشنطن قراراً لمجلس الأمن باستعمال حق النقض الفيتو وحدها، من دون بريطانيا أو فرنسا، كان تجاه قرار خاص بالملف الفلسطيني، كذلك انفردت مع إسرائيل وعدد من الدول لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، في الجمعية العامة، أيضا فيما يخصص قراراً بالملف الفلسطيني/الإسرائيلي.
ولعل اجتماع الجمعية العامة بعد أيام سيكون دليلا آخر على ما دخلت فيه الولايات المتحدة من عزلة دولية أولا بسبب انحيازها الفج والفاضح والغبي إلى جانب حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، وثانيا، بسبب تعامل ترامب مع السياسة الخارجية بميزان المال فقط، دون أي اعتبارات لمكانتها كدولة عظمى، لذا فبرغم أن ترامب في أول زيارة خارجية له وكانت للعربية السعودية، قد عاد بمئات المليارات من الدولارات، وبرغم أنه عاد بتعزيز تحالفه مع حكومات بعض الدول العربية، إلا أنه عاد بحنق وغضب شعبي غير مسبوق، ويضاف إلى ذلك أنه قد فتح أبواب الحروب التجارية في غير مكان من الصين إلى كندا، مرورا بروسيا والاتحاد الأوروبي.
الغريب في الأمر، هو أن قدرا من الحكمة لا تبديه إدارة ترامب، التي تظهر من الغباء السياسي القدر الكبير والكافي، الذي يشجع دولا أخرى ليس فقط على تحدي الإرادة الأميركية في غير مكان من العالم وحسب، بل وحتى على التفكير في تغيير أو حتى تطوير أو تعديل النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد الحرب الباردة، والذي جعل من الولايات المتحدة الدولة الأعظم في العالم، وبعد ولوج أكثر من دولة أو تجمع دولي لرحاب المنافسة العالمية عبر البوابة الاقتصادية، كما هو حال الصين وألمانيا التي تحملت ولا تزال تتحمل العبء الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، لتخرج أوروبا كلها من جيب واشنطن، ها هي روسيا تظهر التفوق السياسي على الولايات المتحدة في أكثر من ملف، نذكر هنا بملف أوكرانيا أولاً ثم بالملف السوري ثانياً لنؤكد ما نذهب إليه.
الولايات المتحدة التي كانت سياستها الخارجية تميز بين الشعوب والحكومات، تظهر حاليا سياسة مختلفة، حين تتبع سياسة العصا الغليظة في مواجهة أكثر من دولة من كوريا الشمالية إلى إيران، مرورا بنيكاراغوا وفنزويلا، اذ إن ذلك يعني أن الولايات المتحدة لو تجرأت ودخلت أي حرب عسكرية ستواجه معارك ضارية، حيث ستدافع الشعوب عن أوطانها، ولن يكون الحال كما حدث لها مع تجربة العراق العام 2003.
ولعل أسوأ سياسة خارجية تتبعها حاليا الولايات المتحدة، هي سياستها تجاه ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، فهي تستخف أولاً بما يمكن أن يقوم به الشعب الفلسطيني، وهي ربما لا ترى سوى السلطة الفلسطينية، ولا ترى فيها سوى أنها لا تمتلك أي قوة عسكرية، كما أنها ليست سلطة ثرية، فلا هي دولة خليج أو دولة نفط أو غاز، ولا هي دولة صناعية، بل سلطة تحت الاحتلال، والاحتلال الإسرائيلي، الذي يهم ترامب وإدارته إرضاءه حتى يذهب للانتخابات في ولايته الثانية وهو مطمئن إلى إعادة انتخابه، بعد أن تورط في ولايته الأولى بالظهور على حقيقته السطحية والساذجة أمام جمهور الناخبين الأميركيين.
أسوأ ما تفعله إدارة ترامب هو أنها تتخبط في سياستها، وبجملة إجراءاتها الإشكالية تجاه القدس واللاجئين، لا تفتح جبهة العداء فقط بينها وبين السلطة الفلسطينية، أو مع الرئيس محمود عباس وحسب، بل تضع في خانة العداء لها الأحد عشر مليون فلسطيني أولا، وثانيا مئات ملايين العرب والمسلمين ثانيا.
آخر قرارات إدارة دونالد ترامب الحمقاء كان إغلاق مكتب (م ت ف) في واشنطن، ذلك أن الخدمات القنصلية التي كان يقدمها ذلك المكتب تشمل نحو 600 مائة ألف أميركي من أصول فلسطينية، لهم علاقات اجتماعية بأصولهم في فلسطين، من توثيق للولادات، وحالات الزواج، وحصر الإرث وبيع وشراء الأراضي وما إلى ذلك، ومعروف أن الفلسطينيين أينما كانوا يتجاوزون في تأثيرهم ونفوذهم عددهم، ارتباطا بكونهم أصحاب قضية أخلاقية عادلة، تجد تعاطفا شعبيا في كل مكان.
أما حين يفكر الطاقم الأحمق في إدخال صفقة العصر من بوابة غزة فانه ينسى أن كل إخوان الدنيا وليس حماس فقط لا يمكنهم أن يقدموا على التجاوب على فعل كهذا، لأنهم سيجدون بأن الجحيم قد فتح أبوابه عليهم، لذا نقول إن ترامب وإدارته الذي ربما كان يستهين بما يمكن أن يرد به الشعب الفلسطيني عليه أن يفكر للحظة كيف أن الصهيونية عجزت بعد سبعين سنة عن إخضاع هذا الشعب الحر، وعن قتل قضيته أو تصفيتها، لذا فان رأس إدارة ترامب سيصطدم بالحائط قريباً، وربما قبل أن يحل موعد انتخابات الولاية الثانية، ليبث بأنه كان فأل شؤم على أميركا نفسها، وأنه كان السبب في «إسقاط» نظام ما بعد الحرب الباردة، ليفتح الباب لنظام عالمي متعدد الأقطاب، أكثر عدالة ومسؤولية كونية، سيقف بدوره مع الحق الفلسطيني ويكنس التطرف الإسرائيلي من الوجود.
عن الأيام الفلسطينية