اسماعيل ابراهيم عبد
حذام يوسف طاهر في بوحها الصادق حد الانعكاس المباشر لذاتها كنفس , يؤرقها كل خلل, ويحتويها كل أمل .
في (الحب وأشاؤه الأخرى) ( ) , تبعث لنا رسائلَ عدة عن ظرفها الانساني , ضمن عائلة, وأب مناضل , ومجتمع متحضر في علاقاته .
تلك المثابات وظفتها الكاتبة لتستكمل هيئة الأشياء عبر حبها لها , سواء كانت هذه : حكاية عن الغائب , او تأسي لشهيد او مناضل , أو عن وجع تراب الوطن , أو ذبول زهرة في حديقة , أو وجود أشياء مهملة على الرصيف ..
باختصار شديد (هذه المجموعة) تؤاخي بين الموجودات كلها كونها من أصل واحد هو الوجود , وبالحب الحقيقي المطلق الجمالي تشكل هويته !
أود أن ألفت النظر الى الزوايا التي قد لا تبين عبر مظهر الكتابة الشعرية , أو دلالاتها المباشرة .
اقصد أن القصائد التي سأنتقيها خصوصية فنية وفكرية لذا سأُتابعها على النحو الآتي : 1 ـ لم يحن الوقت بعد وعفوية الاحساس بالمعنى
إلى أي درب تدير وجهك؟
كم انتظرتَ أيها المعذب روحا؟
كثيرون وصفوك .. نبيا للمحبة
نبي الطفولة.
هل كنت تعلم يوم رحيلك؟
هل كنت تخطط لرزم أحلامك؟
ولكن إلى أين؟ كيف ترحل هكذا
دون أن نلوّح لك .. أن انتظر
ليس هذا أوان الرحيل !!! ـ القصائد , ص16.
في هذه القصيدة (المقطع) تباشير الشاعرة حركة تخلط فنياً بين الشعر كمشاعر والنثر كموضوعات عقلية. ومنها تنطلق الى فلسفة مبسطة، تعمق الحس بالموجودات (العناصر العشرة) الآتية :
(الدرب , الاتجاه , الروح , الكثيرون , المحبة , الطفولة , الرحيل , الاحلام , التلويح , الانتظار).
ومن الواضح انها جميعاً (موجودات هلامية) لا هي محسوسة وتلمس , ولا هي مجردة من الملامح فتمحى , لا هي شيئية تماماً ولا هي معنى لفظياً وحسب , وهذا نوع معين من فلسفة (عفوية الاحساس بالمعنى).
2 ـ لوم ـ امحاء معتزلي
أشعر بالأسف ..
عندما أتذكر
إن جسدي اشتاقك كثيراً
ويداي سعت اليك
لكن صوتا بداخلي
سحبني إلى الخلف
أشعر بالأسف
لأني عندما كنت معك
لم أكن أنا . ـ القصائد , ص19
في قصيدة (لوم) تجريد حقيقي , يخالف التذكر يخالف الرغبة الحميمية للوفاء , يخالف التوق الى التأسف على المضاع من اللحظة الحميمة .
اللوم هنا ليس للمعنى الخبيء بين الذات التي تتأسى وتتأسف , انما للنفس الأخرى , الذات (الند) المنشطرة بين القرار والنكوص , بين ان يعطى فرصة للظاهر الانساني ليعبر عن , مظانه الملموسة الراغبة , عبر اليد , والصوت العقلاني الذي يختبر توق الحاجة ان تكتمل بموجبها المظهري (الرجل او الوطن) .
من التعليق اعلاه , (أي حالة التردد والحيرة والاسف / بمقابل / الواقع الذي يفرض التخلي) يتقرر القدر النهائي الذي يصير الميل العاطفي فيه تجاوزا على مِلل وقوانين الوجود , فيتلاشى الفرد لأنه لم يكن مكافئ تماماً لما قُدِّر عليه ..
والحصيلة أن اللوم يقع على القدر لا على النفس أو الجسد . وفي هذا امحاء لكيان المحب بذوبانه بكيان المحبوب , على حد التفكير المعتزلي , و(الصوفي) الحديث.
3 ـ بسم الحب , والوجد بالوجود
يا الله ..
ما بال خطواتي تغفو !
وأنا أركض ..
ما بالي بإسمي أتعثر؟
خطواتي تتعثر أكثر
وأميل على ظلي الأسمر
فأراني ..
أرسم ..
أرقص ..
أتبختر ..
وأطير إليه بندائي
أن يقترب من غصني الأخضر
أن يسبق خطواتي .. لحنه
لأصلي على عشب خيالي
وأصلي وأتلو آياتي
يا الله ..
قربه أكثر .. ـ القصائد , ص21
في غنائية هذه القصيدة شدو من نوع طريف , فالتطورات الحركية لم تحاول التعلق بالازاحات الشعرية , ولم تتعلق بالترنيم اللحني لوحده , انما اجترحت لها ترنيماً فكرياً له امتدادات متنقلة من الأُصول الى الفروع ففروع الفروع , إذ أن :
ـ الخطوات تتلاحق بسرعة فتولد الركض / هي حركة أولى.
ـ الركض يولد التعثر باسم الحب الذي هو (الشاعرة او القصيدة) / وهي حركة ثانية , متصلة منفصلة بـ , و , عن سابقتها .
ـ العثرة تصطدم بالظل (الشكل الثالث للحب) الذي ينقذ العثرة لتصير رسماً / وهي الحركة الثالثة بذات الصفات , (متصل منفصلة) .
ـ (ظل) الحب الذي أنقذ العثرة دفعها للرقص والتبختر , والرقص المتبختر سعادة أحالت كل الاشياء الى محبوبات ومحبين / وهي الحركة الرابعة في القصيدة .
ـ التبختر صير المحبين نداءات تطير نحو الاغصان المفعمة بخضرة الجمال والعطاء / وهي الحركة الخامسة في القصيدة.
ـ الحياة المحتفلة بالجمال والعطاء تصلي لواهب النعم ليدنو كل الجمال والحب وغضاضة العشق , من القلوب المفتوحة له مثل سماء .
ماذا تؤكد القصيدة بعد هذا التعلق كله بالمطلق الجمالي؟
انها تريد ان تخلق فضاء للتنغيم المبهج , المعمق للترنيم الايقاعي , من ثم اسباغ المنطق الوجدي الوجودي عليه .
4 ـ يوسف طاهر وعرفانية الفخر الاسري
هل لي بروح مثل روحك؟
يا سيد الكرماء ..
يا طاهر الروح ..
وطاهر أسمك
هل لي بلحظة .. هي حلمي
أبوح فيها ما تأخر من حروفي
يا شذى الطيبة
على كل من سار معك
ومن تبعك
هل يشبهونك؟
يمثلونك؟
هل يملكون عتبة كرمك؟
أو لون عيونك؟
أخلد عزيزا .. فقد تاهت حروفي
وتاه طيفي .. على أنجمك . ـ القصائد , ص22
في القصيدة بادرة جديدة في (أدب النعي) , تلك هي العودة الى خصائل الجمال للذات المرثية, عبر عرفانية الاسم بتبيان منجزاته وأثرها على المستوى الخلقي والجمالي والثوري للذات الشاعرة , وتقطع طرافته كذلك في استنهاض الروح الثورية والكرم والجمال الجسدي والسلوكي برؤية محايدة , كأن النعي رساله لتحديد واظهار الشكل النبيل من الحب لا الرثاء بمعناه العاطفي والاسري .
5 ـ سر الهي , ايكلوجيا قرابة
أنبأتني زهرة النرجس
بأني سأكون هناك
حمّلتني سرا
لن أبوح به .. إلا لفجره
فمنذ حلول الربيع
وأنا أرقب الأزهار
منذ تفتحها .. وأنا أرقب حلمي
منذ أحلام بعيدة
وأنا أنوي الاقتراب
منذ اقترابي منه
وأنا حافظة للسر
سر حملتني إياه نرجسه
لن أبوح به
إلا على شفتيه
سأطبعه هناك
لأستيقظ فأجدني غارقة في حروفه ص26
في وحدة الوجود عناصر مخلوقة لاداء وظيفة محددة , فلن نجد يوماً شجرة تحكي أو حيواناً يكتب الشعر , أو صخرة تبكي , ولا ماء يرفض ما يرمى اليه , ولن نجد هواء يمتنع على غيمة .. الخ ..
تلك الوظائف لن تتغير للعناصر البيئية مطلقاً إلّا بقدر محدود من صنع التطور الحضاري التقني والمعرفي .
الشاعر والفيلسوف والفنان لهم وحدهم قدرة على تغيير وظائف الكائنات , فيصير للشجرة لسان فتحكي , ويجوزوا للحيوان يكتب الشعر ويغنيه , وللصخور ان تبكي من فارقوها , والماء يرفض الأوساخ الملقاة اليه , والهواء يخالف غيمته !
والشاعرة تتحدث ـ في القصيدة أعلاه ـ مع النرجس بأسراها , وتروي حلمها للربيع بعد أن يراقبها منذ الفجر الى تفتح الزهور , منذ مرحلة العشق حتى مرحلة الحلم , بل أن الربيع يصير حبيباً يقدم للحلم سر النرجس بين شفتي الحرفين (ح , ب) .
ان التجسيد البيئي سيبلغ مدى متطوراً حين يذوب الربيع بـ (النرجس , بالندى) ليغرقوا جميعاً بلوحة فيء الطبيعة , المُمْحِية للذوات المغلقة , (للطبيعة / البيئة ) المتعاضدة , التي تحترم النبل والجمال ونعمة الوجود المرطب بالحب الجليل .
القصيدة تدعو الى نبل ايكلوجي من نوع وجداني يدعو الى القرابة البيئية لمكونات الضمير الحضاري الجديد .