حركةُ نقدِ الشعرِ في الموصل منطلقاتُها واتجاهاتُها

(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
القسم السابع
د. عبد الرضا علي

2ـ مرحلةُ النضج

((الاتجاهات))
ونعني بها مرحلةَ تكوينِ الشخصيّةِ النقديَّةِ الفاعلةِ في الوسطِ الثقافيِّ،وامتلاكِ الرؤيةِ المعياريَّةِ التي تُعبِّرُ عن المنطلقِ الفكريِّ لصاحِبها، وتأشيرِ منجزاتها : كتباً كانت أم دراساتٍ نقديَّةً، مع تعيينِ الزوايا التي ينظرُ منها نقَّادُها إلى الشعرِ: اتجاهاتٍ، وأنواعاً .
ولمَّا كانت حصيلةُ هذهِ المرحلة كثافةَ العطاءِ : أسماءً وإنجازاتٍ، فإنَّ الدارسَ مضطرٌ إلى تقليصِ مساحاتِ التوصيفِ ، والمعالجةِ، والتقويم، ممَّا يؤدِّي إلى اختزالِ كثيرٍ من جوانبِ الصورةِ ، والاكتفاء بالإبقاءِ على الزاويةِ، والمنجزِ، والتشخيصِ تسميةً؛ وهو منهجٌ يُتَّبعُ في مثلِ هذه الحالات.
إنَّ مرحلةَ النضجِ تقدِّمُ اتجاهاتٍ متباينةً في نقدِ الشعرِ، لكنَّ انجازاتِها تقلِّصُ تلك الاتجاهات، ممَّا يعني أنَّ بعضَها يلتقي في دائرةٍ واحدةٍ مع بعضها الآخرِ، وإنْ بدا في التنظيرِ مبتعِداً عن غيرهِ، فكان رأيُـنا أنْ يتمَّ حصرُ إنجازاتِ هذه المرحلةِ في الاتجاهات التالية:
أوَّلاً ـ الاتجاهُ التحليليُّ:
وهو نقدٌ يُعنى بالنصِّ تحليلاً وتفسيراً وتقويماً، ولا يترُكُ زاويةً من زوايا التحليلِ إلا أفادَ منها. فهو يدرسُ النصَّ من الداخلِ من غيرِ أنْ يُهملَ التأثيراتِ الخارجيَّةَ فيه، فحينَ يستبطنُ النصَّ لا ينسى أصولَـهُ التي قامَ عليها، ولا أسبابَ إنشائهِ، ولا فضاءآتِه التي يدورُ فيها، ويُعنى أصحابُهُ بالتطبيقِ عنايةً فائقةً، فهو نقدٌ تحليليٌّ تطبيقيٌّ، ومن أبرزِ نقّادهِ :
1 ـ الدكتور جلال الخيَّاط
عنايةُ جلال الخيَّاط بالتحليلِ ابتدأتْ منذُ العام 1970م، حين أصدرَ كتابه الموسوم بـ(( الشعر العراقي الحديث مرحلة وتطوّر))² ، غير أنَّه ما لبثَ أنْ طوَّر منهجه هذا ليجعله تطبيقيَّاً في دراساتهِ الأخيرةِ، لاسيَّما (( المنفى والملكوت))³. علماً أنَّ منهجهُ قد ترك أثراً في الكثيرِ من طلابه الدارسين الجامعيينَ بحكمِ إشرافهِ عليهم، وتأثُّرهم به ؛ وميزةُ جلال الخيَّاط أنه موضوعيٌّ لا يتردَّدُ في الرجوعِ عن آرائهِ إذا اكتشفَ أنَّ بعضَ أحكامِهِ تحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ، كما فعلَ حينَ أعادَ طباعةَ كتابه الذي ألمعنا إليه (( الشعر العراقي الحديث مرحلةٌ وتطوّر)) طبعةً ثانيةً .
2 ـ الدكتور سالم الحمدانيّ
على الرغمِ من أنَّ بداياتِ سالم الحمداني النقديَّةَ كانت عن (( عبد الباقي العمري))، أي كانت دراسةً في السيرةِ والأدبِ، إلا أنَّ دائرةَ إسهاماتهِ النقديَّةَ قد توسَّعت منذ العام 1971م، حين درسَ التيَّارَ الدينيَّ في الشعرِ العراقيِّ الحديث، إلى جانبِ دراسةِ بعضِ الظواهرِ الفنيَّةِ في الشعرِ العربيِّ القديم بعامّة، والشعر الحديث بخاصَّةٍ . ولم يقتصرْ في نقدهِ التحليليِّ على دراسةِ الشعرِ، إنَّما أسهمَ أيضاً في دراسةِ (( مذاهب الأدب الغربي ومظاهرها في الأدبِ العربيِّ الحديث)) .
يمتازُ نقد الدكتور الحمدانيّ التحليليّ باتِّساعِ دائرتهِ على ما حول النصِّ، بمعنى أنه يجعلُ الخارجَ قسيماً للداخلِ في عمومِ نشاطهِ النقديِّ، فضلاً عن اهتمامهِ بالإفادةِ من الاتجاهاتِ الأخرى.
3 ـ الدكتور عمر محمَّد الطالب
لا مداهنة إن قلنا : إنَّ عمرَ الطالب واحدٌ من أغزر النقَّادِ نتاجاً في الموصلِ، ونتاجهُ النقديُّ نتاجٌ شاملٌ، بمعنى أنَّ إسهامات الرجلِ النقديَّةَ تناولتْ كلَّ الأجناسِ الأدبيَّةِ : الشعريَّة، والقصصيَّة، والمسرحيَّة، والمقاليَّة، والإعلاميَّة، والتشكيليَّة، وما كانَ في دائرةِ الإبداعِ العام، حتى الكتابات للأطفالِ ، والأدبِ الشعبيّ، والفنِّ السينميِّ . وليس ذلك غريباً على رجلٍ امتلكَ موهبةَ كتابةِ القصَّةِ قبل امتلاكهِ لأدواتِ الناقدِ الأساسيَّة. ويبدو أنَّه أفادَ في نقدِهِ التحليليِّ التطبيقيِّ في السنواتِ الأخيرةِ من بعضِ الاتجاهاتِ الجديدةِ، لاسيَّما الاتجاهَ البنيويَّ إفادةً واضحةً في بعضِ إنجازاتهِ النقديَّةِ في الشعرِ الجاهليِّ.
إنَّ الوقوفَ على ما قدَّمَه عمر الطالب من حيثُ الكمُّ والكيف تخرجُ دراستنا هذهِ عن منهجِها، لكثرةِ الكمِّ، وتنوّعِ الكيفِ ؛ فهولا يؤمنُ بزاويةٍ واحدةٍ في النظرِ إلى الإبداعِ الأدبيِّ، إنَّما ينظرُ إليهِ من زوايا مختلفةٍ، وهذا ما يُفسِّرُ قراءاتِهِ المتعدِّدةَ للشاعرِ الواحدِ، ممَّا ينتجُ عنه اختلافات بعددِ القراءاتِ، فضلاً عن أنَّهُ من المهتمِّينَ بدراسةِ المناهجِ الأدبيّةِ، وله فيها كتابانِ .
4 ـ بعضُ الرسائلِ العلميَّةِ والدراسات الجامعيَّة، لاسيَّما ما كتبه الباحثون:
أ ـ بشرى حمدي البستانيِّ في رسالتها الجامعيَّةِ الموسومة بـ (( البناءُ الفنيُّ لشعرِ الحربِ في العراقِ 1980 ـ 1988م)) التي نالتْ بها درجةَ الدكتوراه من كليَّةِ الآدابِ في جامعةِ الموصلِ، فهي دراسةٌ تقفُ في معظمِ مباحثِها وقفاتٍ تحليليَّةً تطبيقيَّة على نصوصٍ شعريَّةٍ معاصرةٍ فاحصَةً محلِّلةً مقوِّمةً على وفقِ معياريَّةِ هذا الاتجاهِ، لاسيَّما عندَ فحصِها لنماذجِ الصورةِ، والإيقاعِ، ومعماريَّةِ قصيدةِ الحربِ.
ب ـ ذو النُّونِ الأطرقجي ـ في رسالتِهِ الموسومةِ بـ(( الشعرُ العراقيُّ الحديثُ، حزيران 1967، تشرين الأوَّل 1973م)) التي نالَ بها درجةَ الماجستيرِ من آدابِ جامعةِ الموصلِ، فهي أيضاً دراسةٌ نقديَّةٌ اتخذت من النقدِ التحليليِّ التطبيقيِّ مجالاً لدراسةِ الشعرِ فيما يخصُّ الموقفَ من الزمنِ، والموقفَ من الموتِ، والموقفَ من الحريَّةِ، والموقف من المدينةِ، والموقف من الحبِّ، والموقف من الثورةِ، وما إلى ذلك.
إنَّ ذا النونِ الأطرقجيَّ (الشاعرَ) يمتلكُ صفات الناقدِ التحليليِّ القادرِ على فحصِ النصِّ بموضوعيَّةٍ وتجرُّدٍ، وإنْ ظهرَ في بعضِ جوانبِ اتجاههِ ـ وبخاصَّةٍ ما كان منشوراً في الدوريَّاتِ ـ ما يُشيرُ إلى تأثُّريَّةٍ توزَّعت هنا وهناك من غير أن تكونَ مجاملةً، أو مفروضةً فرضاً.
ج ـ الدكتور عبد الوهاب محمَّد عليّ العدوانيّ ـ في بعضِ دراساتهِ النقديَّةِ في الأدبِ العربيِّ الحديثِ، لاسيَّما التي حلَّلَ بها نصوصاً للمرحومين : رشدي العامل، وشاذل طاقة. مؤكِّدين على اقتدارهِ في صياغةِ العبارةِ الجميلة، وإحكامِ الجملةِ، وربط الفقرة بالفقرة الأخرى لتكوين البناء العام، وإثارة المتعة في تحليله النقديِّ.
د ـ الدكتور عدنان خالد عبد الله ـ في كتابهِ الموسوم بـ(( النقد التطبيقيّ التحليليِّ)) الصادر عن دار الشؤون الثقافيَّة العامة، العام 1986م، لاسيَّما الباب الأوَّل الخاص بنقدِ الشعرِ إذ يُفصحُ عن صورةٍ جميلةٍ لناقدٍ متميِّز في هذا الاتجاهِ.
وعلى ضوءِ ما قدَّمه من جهدٍ مرض ٍ في هذا الكتاب، فإنَّه يمكن أن يقدِّمَ لنا في قابل الأيام ما نطمحُ إليهِ من تحليلٍ تطبيقيٍّ حصيف يدلّلُ به على مكانة هذا الاتجاهِ، وأهميَّته في الوصولِ إلى الحقائقِ التي تنشدها الحركة النقديَّةُ المعاصرة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة