مناهل السهوي.. الكتابة عند حافة الحرية

علي حسن الفواز

تهجس الشاعرة السورية مناهل السهوي بروح المغامرة، تمارسها بوصفها وعيا للكتابة، وتعبيرا عن الشغف بالحرية، إذ تبدو الحرية هنا وكأنها الكتابة بصوتٍ عال، والجرأة على ممارسة الوعي، وعلى تحفيز اللغة لأن تكون فضاءها الشخصي، أو مجالا للاعتراف بوجود الجسد عبر الإنصات الى استعاراته، أو إيهامات صوته الصاخب، أو عبر الاعتراف بتفاصيل حاجته، قلقه، ارتباكه، عوائه، إذ تبدو الكتابة هنا وكأنها لعبة فادحة، وباذخة عند الحافات، حافة الحرية، حافة اللغة، حافة الوعي، حافة الجسد..
تأخذنا السهوي الى شغف مُستفِز، الى كتابة يندّس فيها كثير من الطفولة، مثلما يتبدى فيها كثير من الشغب والتمرد، فهي تنطّ- عبرها- من العالم/ النسق الى الذات، من القصيدة الى الحياة، حيث تستمرأ لعبتها ومغامرتها، وعبر تحسسِ مايبدو صاخبا في حريتها وفي ضجيج يومياتها الدمشقية، حيث تنشغل قصيدتها باستعارات لها شفراتها الحسية، ولها أقنعتها السيميائية، ولها توهجها التعبيري الذي يكشف عن مهارة الشاعرة و(شقاوتها) في استدعاء ما هو خبيء ومسكوت عنه..
قد لا تعتني السهوي كثيرا بأناقة الجملة، بقدر عنايتها بحمولاتها الصائتة، لكنها تجعلها أكثر تمثّلا للمواجهة، ولاستكناه ما يمكن أنْ تثيره الكتابة الشعرية من أسئلة، ومن أفكار أو حتى من يافطات، فهي تدرك أنّ جرأتها في المواجهة تعني التفكير والتعبير بصوت عال، وأنّ نفورها من الرتابة ومن مساكنة التفاصيل اليومية، يعني التحفّز على البحث عن ماهو مُضمّر أو عن لذّات غائبة، وباتجاه التحديق الحاد والنافذ بالعالم، بوصفه عالما مسكونا بالرعب والمقموع والمفارقات والنقائض، والشغف بما هو ضدي، أو مايمكن أنْ يكون خبيئا تحت العلني..
هي تكتب نصَّ وعيها، الوعي المتسائل، والشكاك، والباحث عن المعنى، بما فيها المعاني المباحة، والمتروكة على الطاولة أو عند الرصيف، أو عند حافة الجسد وعوائه، أو حتى في سرائر العائلة والمقدّس، أو عند زوايا المسكوت عنه.
الثورة لا تمنحنا رجالاً
لا الوطن،
ولاحتى المغص المقيت
قبل العادة الشهرية ..
نحن النساء نطرح الدم
كما تفعل الحروب
ونتكاثر في المعارك..
نخرج من كلّ مكان
كصغار السلاحف
تفقس في الرمل البارد
وتجري بفطرة للماء..
السهوي لاتكتب- أيضا- نصها بتجرّد، أو حتى لاتجعل شخصيتها بوصفها أنثى في سياق الإعلان عن هذه الكتابة، تماهيا مع التورية، أو التقنّع، بقدر ماتصطنع للكتابة وجودا، وتترك لشخصيتها الحلمية أنْ تكون أكثر تحررا وحضورا وتعبيرا عن هذا الوجود، لكي ترى الأشياء بوضوح، ولكي يكون اصطدامها بالأشياء مدويا، حيث صدى التاريخ، الحرب، الموت اليومي، وحيث البوح الصارخ بما هو نقيض لهذه الأشياء القامعة والماحية، وبما يُعطي للقصيدة مجالا استعاريا مفتوحا، له مستواه الدلالي المسكون بقاموس اليومي والمُباح، وله مستواه التعبيري المسكون بالمفارقة والاستدعاء، فضلا عن المستوى الظاهراتي بقصديته وبفاعلية ماتراه أو تستدعيه عبر الوعي المشاغب والشقي والشبقي، والذي يضعنا أمام حدوس تتسعُ لرؤية الأنثى الباحثة عن أسئلة حريتها ووجودها..
من أيّ مكان يأتي الارتجاف،
التوق!
من أيّ مكان تأتي امرأة قبيحة تحبُّ العالم !
لامكان لكِ
لأنّك حالمة،
لإنَّ هذا التوق للرجل الذي كنتهِ سيقتلكِ..
ترتجفين دوماً
كمبضَعٍ لم يعتد اللحم..
كما العادة،
وقعتِ في حبّ أشياءٍ لن يراها سواكِ
وسِرتِ وحيدةً وناضجة
كتربيتة أولى على كتف رجل عجوز..
لتكتبي اقتصاصاً من العالم..
الكتابة المرآوية في قصائدها تصلُح لإجازة توصيف ما تتمثله شعرية السهوي، فهي لاتجد في المرآة قرينتها، بل ذاتها العميقة، اللجوجة، القلقة، والتي تجد في هذه الكتابة لعبتها، ولذتها، وحتى(شقاوتها)، فهي تلامس، وتكشف عن رغبات فاضحة، مثلما تجاهر بوعي فاجع، هو وعي بطلتها/ صورتها الغامرة في تلك المرآة، والتي لاتجد فيها اكتمالا، بل احساس بالعري، بالوحدة، وبالشبق، بالتوق الى الخلاص من خلال التماهي أو الحلول فيها، حتى تبدو الكتابة وكأنها كلُّ هذا الشغف، وكلُّ هذا الهاجس الحر الذي يُساكنها.
نص اللذة.. البحث عن الاكتمال..
استدعاء الفعل الشعري للذة يعني الإتكاء على بنية تصويرية تُحفّز المخيال، مثلما تقوم على استدعاء المحبوب عبر تشفير التفاصيل، وعبر التلذذ بما يتركه من أثر، شغف، رائحة، إحساس، وكأنّ الشاعرة تقترح وجود البنية التصويرية كمقابل للإعتراف، أو للامتلاء ب(فيتشية) الجملة الشعرية بوصفها جملة تذكّر، أو استيهام..
في منتصف القبلة
لامكان أعمق
يذوب لساني كمركب وحيد في فم البحر
في منتصف كلّ الأفعال
نملك حقّ التروّي..
في اللحظة العظيمة لانقلاب القارب،
لتشتت الحمولة
ولفقدان امتعتنا
في لحظة انتصاف النهار
تستشعر الأسماك حركة على السطح
كما يفعل جوف فمك
أمدّ لساني،
أحرك الأجساد المقلوبة
وأخرج في شهيق طويل..
لعابك موج مالح،
لامكان أعمق للساني
أما في البحر:
هنا كقاع،
لا يكلفنا الوصول إليه سوى قارب مقلوب ..
هذه القصيدة/ السيناريو/ ذات البنية التصويرية، لاتضع البنية الإطارية لها وكأنها كتابة ببما يشبه(البورنو) بقدر ما أنّ الشاعرة تكتب- من خلالها- لذتها/ قصيدتها الشخصية، والتي تقوم على أنسنة الوصف، استدعاء الغائب، وعلى تراكبٍ تصويري تشتبك فيه الجملة الإسمية أو شبه الإسمية( في منتصف القبلة، لامكان أعمق) بوصفها التوضيحي، مع الجملة الفعلية( نذوب، نملك) بوصفها الحركي، وهذا ما يُعطي زخما لفاعلية التوهج كقاعدة من قواعد قصيدة النثر، لتحفيز البنى المجاورة، ولابراز عدوى التفاعل مابين الإسمي والفعلي، لاصطناع مايشبه(السردية) المشهدية، تلك التي تقودنا الى أنسية الشعر، أنسية مايُثيره، وما ينطوي عليه من سيولة وبوح، مقابل ماتقترحه هذه القصيدة من شغف باعثٍ على الانصات بالمُتخيل الصوتي الذي تترك أثره قصيدة السيناريو، وعلى التلذذ باللغة بوصفها سكنى الشاعرة ومجالها الوحيد لاحتواء الحبيب/ الغائب/ الواقف عند لعبة القارب المقلوب، أو القارب السكران كما يقول رامبو…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة