عبدالعظيم فنجان*(2)
المرأةُ التي أغوتـــْــني، وجاءت بي إلى المدينة، جلستْ إلى جواري هذا الصباح، في حافلةِ الحياة، وحدثتني عن أنكيدو آخرَ تبحثُ عنه، لتكفّرَ عن غلطتِها، ولتعيدَهُ هذه المرّةَ إلى البراري .
كنتُ قادماً من ألمٍ آخر، لم تتجوهرْ لُغتي بعدُ لأكتبَهُ بوجازةِ الدرّ، مكتفياً بما في خفّتي من ثقل، وبما في أعماقي من أسى، متوارياً عن الأنظار خلفَ الكتابة، لكنها بوجهها المشمس، ببشرتها الشبقةِ التي تنضحُ دموعاً وفرحاً غامضاً، كعاصفةٍ شاءَتْ أنْ تستريحَ من الطوافِ عند ناصيةِ هشاشتي، اخترقتني بسرعةٍ مُدهشة، فرأيتُ هلاكي في النهر المار بين نهديها، عندما عانقتني بحنان، ونظرتْ ـ بأيّ أسف. إلى جسدي الذابل، زاعمةً أنها تراه، أنكيدو، يشعّ من داخلي، وأنها تسمعُ عواءَهُ، نحيبَهُ واضحاً، وأنها ..
لم أصغ إليها، لأنني شعرتُ بلا جدوى العودة؛ إذ خسرتُ كينونتي مذ أنْ طاوعتُها أولَ مرة، فختمتُ هذه القصيدةَ بطريقةٍ لم تتوقّعْها، بل إنني ـ أنا نفسي ـ لم أتوقع أنْ أكونَ غليظَ القلب مع امرأةٍ سومريةٍ تنطوي على كلّ هذا الخيال .
*أنكيدو: رفيق جلجامش، الذي أغوته امرأة وجاءت به إلى أوروك من البراري، حيث كان يعيشُ مع الحيوانات في ألفة.
*القصيدة المنشورة اليوم هي ضمن إطلالة إبداعيّة متميّزة لصاحب كتب «أفكّر مثل شجرة»، و»الحبّ حسب التقويم السومري»، و»الحبّ حسب التقويم البغدادي»، إذ صدرت في بيروت، وعن منشورات دار الجمل، مجموعة شعريّة جديدة للشاعر العراقي عبد العظيم فنجان، حملت عنوان «كيف تفوز بوردة ؟»، وعبرها يواصل فنجان بناء أسطورته الشخصيّة بوصفه شاعراً خاض حياة عاصفة بحكايات الحبّ والحرب والسياسة، متنقلاً بين الأساطير العراقية، وبين أزقة الشوارع الخلفية، من دون أن تتخلّى لغته الشعريّة عن فخامتها وعلوّها الذي عُرف به، وأيضاً من دون أن يكف عن تنويع أساليبه المغايرة في القول الشعري. تضمّ المجموعة الجديدة أكثر من 90 قصيدة نثر، وبحجم متوسط، وتتألف ـ كما هي جميع كتبه السابقة ـ من ثلاثة أقسام هي «نسخة نقية من الحبّ والألم»، و» كيف تصنع أسطورتك الشخصية؟ « و»مرثية لبغداد من شاعر سومري في ساحة الميدان». من أجواء المجموعة نقرأ:
«احترق العالمُ، ومن الحريق رأيتكِ تخرجين، بكامل جمالكِ: أنيقة مثل شرارة.
بكامل جمالكِ خرجتِ، وأخذتِني بيديكِ من العالم، فاشتعلتُ.
مَن أشعلَ مَن ؟!
جرّبتُ أن أرسمكِ على ورقة، وحين مزّقتُ الورقة تمزق العالم، ورأيتكِ تخرجين من بين الأنقاض، وأخذتني بيديكِ من الزلزال، فتهدمتُ مثل سياج: مثل سياج تهدمتُ.
مَن مزّق مَن ؟!».
وتجربة فنجان، كتب عنها الكثير من الدراسات والمقالات، منها ما أورده الناقد عبدالكريم كاظم، بقوله:» القصيدة التي يكتبها ابن فنجان هي نوع من الفراق بين ما هو واقعي وبين ما هو متخيل أو شعري، ومع كل هذه الإشارات يبقى للشاعر امتياز شعرية الكتابة عن الحبّ برغم الخراب، ألم يقل: (أحبّ شعري الذي خرّبه جمالك) هذه الميزة التي ستظلّ رهانه الأخير ويبقى لنا أن نصغي لأعماق الشاعر..».