سلام مكي *
منذ تشكيله في أواخر السبعينات، لم نسمع يوماً ان الادعاء العام في العراق قد مارس واجبه القانوني والدستوري الذي ألزمه به قانونه رقم1959 لسنة 1979 المعدل بالقانون رقم10 لسنة2011، خصوصاً وان هذا الواجب يتعلق بحماية أمن الدولة والنظام العام والديمقراطية وتطبيق القانون ومراقبة التشريعات والكشف عن الأفعال الجرمية والعمل على سرعة حسم القضايا وتحاشي تأجيل المحاكمات من دون مسوغ قانوني … كل هذه المسؤوليات الجسيمة يتحملها جهاز الادعاء العام التابع الى السلطة القضائية. وبرغم الخروقات الكبيرة التي تحصل يومياً وتعرض أمن الدولة للخطر وعدم تطبيق القانون بشكل كامل وعدم الكشف عن كثير من الأفعال الجرمية التي ترتكب يومياً وخصوصاً جرائم الفساد الإداري والإرهاب وعدم احترام الدستور ووجود الكثير من القضايا التي لم تحسم، لم نسمع يوماً طوال العقد الأخير ان الادعاء العام قام بواجبه. ولكن ما حصل مؤخراً من قبل مدع عام بدرجة قاض في رئاسة الادعاء العام من قيامه برفع دعوى أمام المحكمة الاتحادية ضد رئيس مجلس النواب بدعوى انه اصدر قانوناً بطريقة تخالف السياقات الدستورية، تلك السياقات التي فصلتها كتلة نافذة وألزمت القضاء بالعمل بها. هذا القاضي حاول تقليد فرسان تلك الكتلة الذين اتخذوا من تلك السياقات ذريعة للطعن بأي قانون يصدره البرلمان لم يحصل على موافقتهم. فهو لم يأت بشيء جديد عدا محاولته تقليد أولئك النواب. المشكلة ان هذا القانون لم يثر حمية النواب الذين لطالما طعنوا بالقوانين التي صدرت بسياقات صدوره نفسها ولم يطعنوا به، وهذا ما دفع المدعي العام الى اغتنام الفرصة والطعن به. خصوصاً وان هذا القانون الذي هو قانون مجلس النواب قد وفر لهم الكثير من الامتيازات الخيالية فلا مبرر لهم للطعن به خصوصاً وان مركز كتلتهم لن يتضرر. المدعي العام ترك الكثير من المخالفات الدستورية والقانونية وجاء ليطعن بقانون بدعوى انه يخالف السياقات الدستورية ! ففي تاريخ 25/5/2014 تشكلت المحكمة الاتحادية العليا للنظر بالدعوى التي أقامها القاضي ض. ج. ف المدعي العام في رئاسة الادعاء العام ضد رئيس مجلس النواب للطعن بدستورية القانون 50 لسنة 2007 كونه جاء مخالفاً للدستور، حيث قام مجلس النواب بإقراره بينما الدستور يقول بأن مشروعات القوانين تقدم من الحكومة ومجلس الرئاسة فقط ! وهذا ما يخالف الدستور المسؤول هو عن مراقبة تطبيقه. وكعادة وكيل رئيس مجلس النواب قدم دفاعاً لا يختلف كثيرا عن الدفاعات التي قدمها عندما طعنت الكتلة النافذة بقوانين صدرت بالطريقة نفسها ، حيث أشار الى ان المدعي لا مصلحة له في الدعوى ولم يتضرر مركزه القانوني كما ينص على ذلك النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية وهو غير معني به. المشكلة الكبيرة التي أثارتها هذه القضية تتعلق بأبعاد أخرى تتجاوز الأمور التي ذكرت سلفاً، حيث أنها كشفت حقيقة خطيرة لا يمكن تجاوزها وهي ان الجهاز الأول الذي يعني بحماية النظام الديمقراطي والأمن والتشريعات من الخرق يجهل أبسط مبادئ القانون وأسسه التي تدرس في المرحلة الأولى من كلية القانون، حيث انه الدعوى يفترض ان تقام لا من قبل قاض يعمل في الجهاز بل من قبل رئيس الجهاز إضافة لوظيفته فالقاضي ج. ض. ف لم يقم الدعوى من ذاته وإنما طلب منه ان يقيم دعوى أمام المحكمة الاتحادية، وللأسف تورط وأقامها، من دون ان يراجع النظام الداخلي الذي يمنع المدعي بذاته ان يقيم الدعوى وإنما يجب ان يقيمها محام ذو صلاحية مطلقة. ولم ينفع المدعي تداركه لهذا الأمر حين أوكل محامياً بعد ان أقام الدعوى لأن النظام الداخلي يستوجب ان يوكل محامياً قبل إقامة الدعوى وان يقدمها هو لا المدعي بنفسه وهذا ما جاءت به المادة 20 من النظام الداخلي رقم1 لسنة 2005 التي تنص: تقدم الدعاوى والطلبات الى المحكمة الاتحادية العليا بواسطة محام ذي صلاحية مطلقة … ولا يصح الأمر بتوكيل محام بعد إقامة الدعوى … هذا النص للأسف لم يطلع عليه السيد القاضي في رئاسة الادعاء العام ! معلوم ان هذه أول محاولة لجهاز الادعاء العام لممارسة واجبه لكنها كانت فاشلة بإمتياز حيث ردت شكلاً بسبب الجهل الفاحش بالقانون. نتمنى من الجهاز لو كان فعلاً حريصاً على تطبيق القانون ان يلتفت الى الكم الهائل من القوانين غير الدستورية التي تعمل بها مؤسسات الدولة، والمخالفات الكبيرة التي ترتكب يومياً، وان يمارس دوره الحقيقي في حماية أموال الدولة من الفساد والسرقة التي تمارس في كل دوائر الدولة ويقال ان هيئة النزاهة تتصدى لها متجاهلة الادعاء العام الذي ينص قانونه على ان يكون له الدور الأساسي في محاربة الفساد وحماية تلك الأموال.
*كاتب عراقي