لم يكن أمر صعود نجم العشائر، بعد تبخر سلطة الدولة في التسعينيات من القرن المنصرم؛ عبثاً أو مجرد مصادفة عابرة، لقد عبر عن مستوى الانحطاط الذي انحدرت اليه تجربة الدولة والمجتمع بعد ربع قرن من الحكم المطلق لزمرة «اوباش الريف وحثالات المدن». ان صعود نجم النسخ المشوهة من مؤسسات ما قبل الدولة الحديثة، هو مؤشر على حجم الهزائم الهائلة التي لحقت بسكان هذا الوطن القديم. اما الأشد مرارة فهو ما طفح عمن يفترض بهم النهوض بمهمة التغيير بعد الفتح الديمقراطي المبين، حيث تفوقوا بحماستهم ونصرتهم للقيم و»السناين» العشائرية والقبلية على مآثر النظام المباد في هذا المجال. وكل من يلقي نظرة ولو عابرة على عاصمة هذا البلد المنكوب (بغداد) سيصطدم بذلك النفوذ الكاسح لبيارغ العشائر وقوانينها المتخلفة والمتنافرة وأبسط مستلزمات الحياة في هذا العالم الذي تحول الى قرية كونية يعتصم سكانها بشرعة الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمواثيق الدولية المتجحفلة معها. ان حالة الوهن والخوار الذي يعيشها المجتمع شجعت غير القليل من ممثلي الكتل المهيمنة حالياً على التملق بشكل سافر لهذا النفوذ المدمر للعشائرية والقبلية وبقية منظومة التشرذم المتخلفة، لقد وصل الأمر بهم الى استنساخ التجارب المنقرضة من ممالك وولايات نظمت امورها قبل ولادة المغفور له كوبرنيكوس، حيث تتشكل الجيوش والحكومات وكل اشكال المليشيات من احلاف قبلية واسرية، وغير ذلك من عصبيات عفا عليها الزمن وتطور حاجات واهتمامات البشر. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان هذه المعادلة والتوازنات الشاذة بين الدولة والعشيرة، لا تنفصل عن التدهور الذي لحق بالبنية التحتية واساسها الاقتصادي من قوى منتجة وعلاقات انتاج، عندما جفت تدريجياً منابع الانتاج الصناعي والزراعي والعلمي لصالح شراهة وقيم الرزق الريعي، حيث النتائج الوخيمة والفواتير التي قصمت ظهر وطن كان مترعاً بمشاريع الاحلام الواعدة. وهذا يدعونا الى تخفيض سقف توقعاتنا في معالجة هذه الاورام التي استوطنت المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع، والتي تحتاج الى برنامج واسع وقرارات شجاعة، تضع نصب عينيها مهمة كبح تطور هذا الوباء اولاً، ومن ثم البدء بخطوات حازمة لتجفيف منابع شبكاته الاخطبوطية والتقاليد الهرمة التي رسخها في سلوك شرائح واسعة ممن لم تتعرف على معنى الوطن والمواطنة في هذا العالم الذي أباح لاطفالنا؛ العبث بمغارات شبكته العنكبوتية بطَرَقات بريئة على لوحة الكيبورد..!
جمال جصاني