يوسف عبود جويعد
من سرديات الغربة، ومن وسط غابته الوارفة الكثيفة، بعد أن اجتاح هذا النوع من السرديات الروائية الساحة الادبية، نقتطف ثمرة جديدة أينعت وحان قطافها، فما زالت هذه الغابة يانعة ومثمرة، وتمدنا بالحكايات والأحداث الغرائبية العجائبية، التي تختلف في ثيماتها، وتنوع أحداثها وفق السياق الفني والفكرة التي يتخذها كل سارد في طرح مادته الأدبية، ومن تلك الغابة نكون مع رواية (أوراقٌ لخريف أحمر) للروائي تحسين علي كريدي، الذي يقدم لنا حالة جديدة من تلك الحالات التي تنتمي الى سرديات الغربة ولواعجها وبحورها وسفرياتها المحفوفة بالمخاطر، وقد ارتأى الروائي، حتى يحافظ على عنصر التشويق والمتعة والمتابعة من قبل القارئ، من نهاية أحداث كبيرة عصفت بشخوص أبطال هذا النص، لنكون مع بطل هذا النص حسن، وقد غلفته الوحدة والوحشة، والأسى والحزن على أسرته، التي فقدها وسط تموجات الخطر والرعب والانفجارات التي حلت بالبلاد، حيث يفقد والده الذي إعتاد أن يحتسي الخمر في أحد بارات ساحة الميدان من قبل مسلحين ملثمين، متعمدين لقتل صاحب محل المشروبات وكل الذين يقفون أمام المحل يحتسون الخمر، وينتهز الروائي تلك الحادثة، لنتابع حياة والد حسن، حيث حصل على حصته من بيت كبير في شارع فلسطين، ليستقر بعد أن باعت أخواته حصصهن، وحصل هو على المساحة الأكبر في البيت، تزوج، وخاض غمار معركة الثمان سنوات، وقبل انتهاء الحرب بأربعة أيام، يولد حسن، وينقل لنا الروائي ومن خلال الأب الذي يقود مهمة السرد تفاصيل ساخنة عن المعارك في جبهة القتال المشتعلة، ونجاته من الموت بأعجوبة، وبعد اجتيازنا لزمن الحرب، وانتقالنا الى زمن آخر وهو فترة الحصار الاقتصادي الذي لحق بالأسر العراقية الضرر الكبير، بدأت فكرة السفر تسيطر على الأب، فسافر الى الاردن، ولم تنجح مهمته، ثم سافر الى سوريا، وبعد أن استقر جاء بأسرته الى سوريا، وهكذا نلاحظ من خلال هذا النص السردي، يضعنا في عالم الغربة بشكل تدريجي خطوة بخطوة، وكلما ازدادت خطورة الحياة وصعوبتها، كلما ازداد الأب اصراراً على مواصلة الهروب، إذ إن الأمر لا يقتصر لهذه الاسرة في البقاء في سوريا وانما الأب يفكر بالتوغل في هذا العالم الى مساحة أكبر، ولم يغفل الروائي مهمته في ضخ أحداث جانبية وضرورية وأهمها العلاقة العاطفية التي نشأت بين حسن وليديا، التي توغلت لتصل الى حالات ارتباط روحي وجسدي، واستطاع الأب أن يحصل على جوازات لعائلة المانية من أصول تركية لتسهيل مهمته للسفر الى المانيا:
(كانت جوازاتنا لعائلة ألمانية من أصول تركية ليتلاءم مع هيأتنا، ولكن مالم يكن في الحسبان، هو تلك المضيفة الشقراء ذات الابتسامة الرقيقة التي لا تفارق وجهها الجميل، التي لاحظت حمل والدتي، فتوقفت عندها وانحنت تكلمها بالألمانية، لا أعلم ماذا سألتها ، لكن والدتي التي لم تفقه منها كلمة، ارتبكت بشكل ملحوظ وهي تبتسم ابتسامة بلهاء، والتفتت إلى والدي مستجيرة، وهو الآخر لم يستطيع التفوه إلا ببضع كلمات انكليزية غير مترابطة، مما أثار الريبة لدى المضيفة التي استدعت على إثرها أمن المطار، ليفتضح أمرنا.) ص 51
وهكذا تعود تلك الأسرة، مجبرة الى بيتهم في بغداد، ويضاف الى الأسرة مولود جديد، هو علي، وتوافق وصولهم مع اشتداد، الانفجارات التي كانت تحدث في بغداد، وتأخذ ضحاياها الابرياء، وخطورة الحياة في البلد، فيحدث أن خرجت الأم مع ابنتها للتسوق، فتحدث حالة انفجار بحزام ناسف، يفقد حسن أمه واخته في آن واحد، وبعد مرور عام، يفقد شقيقه عندما أصابته رصاصة طائشة، وهكذا نعود للأحداث من منتصفها، مع بطل هذا النص السردي، وهو يعيش وحيداً وقد فارق أحبابه وسط خضم معترك الحياة الخطرة التي عصفت بالبلاد، لنعرف من خلال ذلك كمية الصبر والمعاناة التي عاشها ابناء هذا البلد، وكأنهم يسكنون فوق بركان هائج، لذا فإن الشخصية المأزومة التي مرت بتجربة عصيبة وصعبة، ألا وهي شخصية حسن، الذي لا يجد بدأ إلا الى العودة الى عالم الغربة من جديد، للسفر الى المانيا بالتحديد، ولكن بطريقة أخف وطأة من سابقتها، وبعد رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، من تركيا الى اليونان عن طريق المهرب، ثم الوصول الى المانيا، الا أن حسن كان يضمر الغضب والحنق على الدواعش، وعندما انتقلت المعارك من العراق الى سوريا غزو الدواعش لهذا البلد، التحق حسن مع الجيش السوري لمقاتلتهم، وهناك وبعد فرار الدواعش، يستقر المقاتلون للراحة في البيت التي هربت الاسرة التي تسكنه من قسوة الحرب، ويكون نصيب حسن بيتاً فارغاً، وعلى سرير واحدة من افراد هذه الاسرة يطلع حسن على مذكرات هذه الفتاة وهي ديما سلامة دياب، ويرى صورها وجمالها الخارق، ويشاهد فديو لحفلة زفاف تظهر فيه، فيفتن بها، ومن محاسن الصدف، أنه يلتقيها هاربة طالبة اللجوء الى المانية، فيرافقها، ويحكي لها حكايته، وكذلك ديما تحكي عملية سبيها واغتصابها من قبل الدواعش، وتزداد العلاقة لتصل الزواج، الا أن ديما واثناء حملها تسقط على الارض، فيحدث نزيف في دماغها تفارق الحياة بعدها، فيعود حسن منكسراً الى ربوع الوطن الذي يحتضنه في كل مرة:
(في نهاية المطاف، حزمت أمري، ورزمت حقائبي وعدت إلى أحضان بغداد واحضان عمتي وخالي وحضن آخر يشعرني بدفء إنسانيته وحبه الكبير لي، إنه حضن (فاطمة) بنت خالي وعمتي، تلك الوردة التي تفتحت وأصبحت كاملة الأنوثة، والتي اقترنت بها بعد ثلاثة أشهر من عودتي، على أمل أن تمنحني الحياة فرصة لنسيان قائمة أحزاني وتنهي هزائمي، أو على الأقل ترجئها إلى وقت آخر، ريثما أمنح العائلة وريثاً يحمل اسمها لجيل آخر.)
أن ما نلاحظه من هذه السرديات، وأعني بها سرديات الغربة، هو محاولة الروائي كشف كمية المعاناة التي عاشها ويعيشها ابناء هذا البلد، وصوت استغاثة يقول أما آن الأوان أن يرتاح هذا الشعب من قسوة الحروب ومعاناتها وصعوبة الحياة وسط بلد مشتعل. ابناء مشردون في عالم الغربة.