حضرت قبل سنوات قليلة حفلاً تأبينياً جميلاً في مقهى بغدادي حديث، لأحد الأدباء الراحلين. ولم أكن قد سمعت بالرجل من قبل. لكني علمت أنه كان صوفياً. ومن أجل ذلك جاءوا بفرقة موسيقية لتعزف أنغاماً مولوية. كما قدم بعض منظمي الحفل كلمات تأبين وقراءات شعرية للفقيد. وكان الجميع يواصلون الجلوس بخشوع تام.
في ما بعد سألت أحد الأشخاص الذين يعرفون الراحل معرفة جيدة، عن سبب وفاته. وكانت كما تبدو من الصورة المعلقة مبكرة نوعاً ما. فأجاب إنه كان مدمناً على الكحول، مما عجل بتلف أنسجته. وكان من الصعب علي تفهم الموضوع. فبحسب معرفتي بالتصوف، وبحثي عن الطرق، واطلاعي على سير الرجال، لم أكن قادراً على عد هذا الرجل من الصوفية، أو من شيوخها، أو من منظريها، أو حتى من مريديها.
إن نقطة الإجماع لدى الصوفية هي نظرية وحدة الوجود، على اختلاف في ذلك بين متشدد ومتراخٍ، ومتحمس ولامبالٍ. وتلك هي سمة جميع الفرق والطوائف والمجموعات الدينية والعرفانية على مر العصور. وكانت هذه الفكرة موضع سخط السلفيين وأهل الظاهر. وكثيراً ما جرت على أصحابها الويلات والمصائب، مثلما حدث للحسين بن منصور الحلاج، وشهاب الدين السهروردي المقتول.
وتعني وحدة الوجود تضاؤل المسافة بين الخالق والمخلوق، إلى درجة تقرب من التلاشي. وحينها يصبح الله والعالم كياناً واحداً. ويعبر عنها آخرون بحلول الإله في الطبيعة. أو يطلقون عليها قدم العالم. وقد وجدت الفكرة طريقها إلى عقول المسلمين عبر مؤلفات الأفلاطونيين المحدثين التي ترجمت في العصر العباسي. وكان أبرز من نظر لها محيي الدين بن عربي الأندلسي الذي قصد المشرق، وأقام في الشام، وتوفي فيها عام 1270 للميلاد. ثم تبعه آخرون مثل جلال الدين الرومي والحاج بكتاش وسواهما. وقال النصارى بحلول الإله في جسد المسيح. وهذا هو سر خلافهم مع المسلمين. أما في العصر الحديث فقد آمن المفكرون الغربيون بحلول (المادة) في العقل البشري، فأصبح هو الإله والمهيمن والموجه. ومن هذا التصور نبعت العلمانية والبنيوية والحداثة وما بعد الحداثة، وجميع الأفكار التي شاعت في القرون الأخيرة.
ومعنى ذلك أن الصوفية لا تطلق العنان لرغبات المرء بل تقيده بسلطة الإله (الحق) أو المادة (العقل). وتدعو للمحبة والسلام وخدمة المجموع. بل أن التصوف يعني لدى البعض الذوبان المطلق في الذات الإلهية. وهو بذلك أداة تطهير وقوة وعمل. ولم يعتزل الصوفيون الحياة العامة. ولم ينزووا في كهوف أو مغارات، بل كانوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم. فأقاموا دولاً وممالك (مثل الدولتين العثمانية والصفوية). وقادوا جيوشاً منظمة مثل الانكشارية.
ربما يكون المعاصرون بحاجة إلى نفحات صوفية لتستقيم لهم الأمور، وتصفو لهم الحياة، وتزول عنهم الأكدار. مثلما هم بحاجة إلى وسيلة للخروج من سجن الجسد إلى فضاء الروح، ومن زحمة العمل إلى شمس الحرية، ومن عتمة اليأس إلى نور الأمل. وهذا هو ما ينقصهم على أية حال.
محمد زكي ابراهيم