محمد جبير…الاستذكار الوفي في العالم الوقح
فؤاد العبودي
الاستذكار أو ما يسمى بالمراجعة هي نوع من رد الوفاء لصاحب الاستذكار، لذلك تنطوي رحلة الكاتب والناقد (محمد جبير) في كتابه ((عاريا أغادر هذا العالم))، وهو عنوان مثير وينبئ بأمور لا بدّ لمن يتابع سيرة حياة الأدباء من قراءتها بالشكل الذي تعطي ثيمة الكتاب المعنون معناها، فالذين استذكرهم الكاتب فضلاً عن كونهم أصدقاءه إلا أنهم يمتثلون كأدباء مرموقين أثروا الحياة الأدبية العراقية. كما أن ليس هذا فقط هذا الذي دفع (محمد جبير) إلى استذكارهم فهو من النوع النادر عندما تجد مشوارهم الأدبي طافحا بالإبداع بدءاً من محمد علوان جبر وحميد الربيعي وعبد الستار ناصر ومحمد شاكر السبع وأسعد اللامي وعزيز السيد جاسم وغيرهم الكثير مما نطق بهم الكتاب.
لذا ومن صفة الكاتب “الوفاء” يعرفهم لكونهم أدباء العراق عاش بعضهم وغرف ما غرف من بعضهم الآخر كونهم إنسانيين صنعوا الحياة وما حولهم بصيغ أدبية مما أعطى (محمد جبير) انطباعاً مؤلماً حول غزو الكورونا لمجتمعنا كما غزت بلدان العالم قاطبة بوبائها الذي يندر إيجاد مثله كالطاعون والجدري والملاريا.
إن الكاتب يضعنا بين قوسي المرض- الوباء الذي غدر بكل من كنا نعشق حضوره بيننا حتى أن هذا الوباء اللعين قد قضّ مضجعنا وتركنا حيارى أمام غدره بهؤلاء الكتاب المبدعين الذين لا يملكون من الدنيا سوى إبداعهم بحيث حاربوا العالم الوقح بما يملكون من صفة الإبداع.. وهو الطريق الذي حدا بهم إلى تكوين نشأتهم وتعاملهم الحبيب مع الآخرين.
إننا في هذا لكتاب ((عارياً أغادر هذا العالم)) لا نجد سوى الصمت الرهيب أمام غزو الكورونا الذي أضاع منا فرصاً كثيرة لا أريد تسجيلها هنا بعد أن طاف بنا (محمد جبير)، وهو يئن من لوعة فراق أحبة أدباء لم يملكوا ساعة المغادرة إلا الروح التي أعطوها دون سؤال وإن كان فلا بدّ من الرجوع إلى المحن التي عاشوها وقدمها لنا الكاتب على طبق من الطين..
لكن يبقى السؤال قائماً بيننا وهو “إلى أين تمضي بنا الكورونا؟“.
لقد امتحن الكاتب ذاته حين مرور الأيام لتطوح بحفنة من الأدباء وحينما يشار إليهم بما تركوا من قصص وروايات ظلت بعد رحيلهم تندب حظوظهم اللعينة في ساعة من أشد أنواع القسوة عليهم.
إن الكاتب الناقد (محمد جبير) يضع من يكتب عنهم في سلة قلبه ويشاركم مصيرهم المحتوم مع مشاركته آلامهم وهو سهم قاتل للصديق (محمد جبير) الذي احتواهم بضميره ليضع الكثير من الأشياء الغائبة عن القارئ حين يدخل عالم أسعد اللامي وهو يئن ومحمد شاكر السبع الذي أعرف كيف كان يعيش مشاكساً عند وصوله إلى مونتريال عاصمة كندا القديمة.
حال وصوله للمجمع السكني ويحاول رائد ولدي مساعدته لأنه صديقي إلا أن مشاكسة الروائي محمد شاكر السبع لم تفارقه ولم تغب أبدا.. فقد غادر الوطن إلى اسبانيا لفترة وعاد لنشر ملف خاص عما شاهده في أسبانيا لمجلة ألف باء المعروفة، لكن محرقة الحرب حالت دون رجوعه، فقد أوقفت عودته إلى هناك.. لكن الكاتب (محمد جبير) لم يقف عند هذا بل زاده بأن الروائي محمد شاكر السبع ظل متواصلاً ونبض الإبداع بقي كما عهدناه فأصدر عدداً من الروايات.
إن ما ذكره الكاتب (محمد جبير) ليس غريباً عنا نحن أصدقاء الذين غادروا، بل إن الناس كانت على غير ما ينقله عنهم… فهم ليسوا ملائكة إلا بما تم إنجازه من تلك الكتابات الموشومة بالإبداع، كانوا بشراً قبل أن تحتل ماكنة الأدب “كليتهم” لينيروا طريق الأدب.
كثير من الأدباء الذين طرز غيابهم الكاتب حكاياتهم بل وحتى أوصافهم وما عانوه سواء داخل الوطن وما واجهوه من مصائر فقد حملت سطور الكاتب كل ما كان دافقاً بالحب والذكرى، وجعلنا نعيش ما كتبه عنهم بأننا معهم في رحلات الذهاب والغياب بوصفها رحلة إلى داخل نفوسهم، حيث لم يقم بتقديم أرشيف كما يحب البعض.. بل كان ينسج بانوراما خاصة عن الذين فقدناهم في المحيطات غرقاً أو بين أصابع الموت العادي المقترن بالمرض..
لذلك فيمكنني مخاطبة الكاتب الناقد أن ما قدمه بين دفتي الكتاب هو ليس استدراجاً سردياً تاريخياً، بل كان مكتشفاً حيث جمع ما عندهم من شتات الفصول وأفعالها ورفضهم لكل من يحاول الإيقاع بهم إن كان من السلطة القائمة أو الآخرين الذين يتحينون فرص الإيذاء، فإن أغلب الناس يعرفونهم من خلال كتاباتهم لكنهم جهلوا الجانب الآخر في حياتهم وهو مهم أيضاً إذا لم يكن المصدر الوحيد الذي تبحث عنه الناس .
وإذا ما كان هناك من عنونة مثيرة فإن عنوان الكتاب مثير حد اللوعة الكامنة في النفوس “عارياً أغادر هذا العالم”، وقد توافق العنوان مع ثيمة الكتاب وجعل منه مرثاة وحب استذكار مفرطاً أو ما شابه ذلك.
العنوان وحده يفرز الكثير من الأسف والكثير من إفرازات الألم حين يتأتى من جانب المغادرة اللعينة مع جماعة عشت معهم شطراً من حياتهم وتجدهم يغادرونك في لحظة.. هذه اللحظة المشبعة بالأنين والمغمسة بالدم..
فهم أبطال في المعنى الأسطوري للكلمة وهم أصحاب أفعال لا تقل عن مضامين البطولة الحقة لأسماء ذات الصحبة الغالية وذات صفة النتاج الثقافي الفكري، لا أجد ضيراً حينما لا أذكر سوى البعض، فمن يريد معرفة أسمائهم فالكتاب أمامهم ليقتنوه، وفعلي هذا ليس نسياً منسياً بل لأنهم عرفوا بما أعطوا وأثروا درب الأدب.. ربما فقط أذكر عزيز السيد جاسم الذي مهما كتب عنه فهو وحده يمثل ملفاً خاصاً، فإن الكتابة عنه ستظل تلاحقه وتشبعه حنى بعد تغييبه في النظام السابق ويبقى كتاباً وحده..
وهنا أقول ليس المهم في الاستذكار على أهميته بقدر ما كان شعلة وهاجة أوقدت ذكرى من ظلمهم النظام السابق وما حمله النظام الحالي من خيبات ظن.. فقد حمل الذين استذكرهم (محمد جبير) في كتابه سعير الأيام وضراوتها وعشق الوطن وهجرانه.. تلك كانت الهواجس القاتلة التي حملها الكتاب في صدور الذين غادرونا.
إن الأهمية التاريخية والثقافية للكتاب هي أنه سيكون بمثابة دائرة معارف للباحثين عن الجو العام الذي عاشه أبطال هذا العالم من الروائيين والكتاب سواء بسبب غدر الكورونا أو ما عداها من أسباب، ويذكرني المثل القائل (تعددت الأسباب والموت واحد)، ولا نستطيع القول إن من يقرأ الكتاب سيحاول جاهداً البحث عما تركه لنا المرتهنون بالقدر…
لقد واجه الكتاب كل أنواع المضايقات لكننا سنصطدم ببنية النظام الحالي الذي عودنا على كره الحقيقة والحب والجمال، وعليه فلا يمكن حتى لو أخذنا عهداً ووثيقة لرعاية الأدباء؛ فإنه سرعان ما يتنكر لوعوده.. لأنهم ما عاشوا إلا لينتجوا أدباً تصور للناس حياتهم.. لذا فإنها معادلة صعبة أن يعيش أديباً أو شاعراً في ظل نظام يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين..