أوس حسن
لا يستطيع الشاعر الفكاك من حساسيته المفرطة تجاه الأشياء والموجودات من حوله، وما يتفتح أمام عينيه من مآس وأحزان كبيرة. يقذف الشاعر إلى هذا الوجود متأرجحا ً بين العظمة التي تميزه عن سائر البشر وبين النقص الكبير الذي يمنعه من الاندماج في القطيع، ويبقى في فلك هذه الدوامة التي تبقيه على قيد الشعر والتأمل.
إن محنة الاغتراب والانفصال عن الواقع، التي ترافق الشاعر في مسيرته، ليست وليدة صدمات لحظوية انفعالية في مرحلة معينة، بل هي أشبه ببكتيريا إلهية نمت وتشعبت في روح الشاعر الطفل، ورغباته النزقة، لتبلغ ذروتها بعد سنين الصبا والمراهقة. الصفعة المؤلمة التي يتلقاها الشاعر في بداية حياته، تبقى آثارها واضحة على جسد الشاعر ولغته، وتظهر بين فترة وأخرى في رموز وأقنعة، ثم تتحايل في ما بعد بطرائقها الخادعة والماكرة لتخفي رعبها الحقيقي. تنفك العقدة الإبداعية عند الفنان أو المبدع لتتناسل إلى عقد متشابكة ولا مرئية، وتعمل الصدمات والفقدانات المتكررة على تكثيف الأحاسيس بطريقة صافية جداً وعميقة، فعندما تتخلص حاستا السمع والبصر من شوائب العالم الخارجي، يتحرر الشاعر من حمولة كريهة تجثم على صدره، فينفتح له ستار اللامرئي، وتبدأ جميع الأشياء من حوله تنبض بالشعر، ليصبح صانعاً للرؤى، ومتحكماً في دفة المخيلة وهي تبحر بعيداً وراء عالمنا المادي المحسوس، أو تنهل من الصور والرموز المختبئة في بئر اللاوعي. لا يستطيع الشاعر اللجوء إلى الأغلبية، ويقدم مجموعة من الاشتراطات والتنازلات لثقافة القطيع؛ ليشعر بالدفء والأمان المرجويين، كأن يعمل بشكل مستمر، أو يستقر ماديا ًوعائليا أو يتبنى مذهباً سياسياً وأيديولوجياً يؤمن به طيلة حياته.
لأن هذه الأشياء ستشعل في داخله جحيم الصراع بين مثاليته وتمرده من جهة، وسذاجة الواقع الذي كان يركله بقدميه من جهة أخرى، وهذا في أغلب الأحيان دفع الكثير من الشعراء إلى الانتحار، إضافة لأجواء الكآبة والإخفاقات المتتالية التي تبقى ملازمة الشاعر في يومياته وعلاقاته مع الآخرين. مع شعوره التام بالعجز والقهر في مجتمع جاهل يرزح مستمتعاً تحت سلطة القمع والكبت.
في عصر الآلة والعولمة المؤدلجة، فقد العالم مركزيته،وانهارت الرموز التي كانت تحيط الشاعر بهالة مقدسة، وازداد عدد الشعراء بالملايين واختلطت الأوراق على القارئ، حتى صار الشعر منبوذا ومهجوراً حتى من الشعراء أنفسهم، الذين أتعبهم هذا الاحتراق الذي تداهمهم فيه الشعرية بروح غامضة وتستولي عليهم، فاتجهوا إلى أجناس أخرى، بعدما اقتنعوا أن لا فائدة مرجوة من الكتابة، بلا مخلص عظيم، ولا فائدة من الصراخ الذي يبتلع الهاوية والصدى، فلا أثر يبقى بعدهم سوى رماد تذروه الرياح، ولا شيء حقيقي سوى العدم. أما الآخرون فقد اقتنعوا بالصمت الذي يوجبه فعل الكينونة، وصارت الكتابة بالنسبة لهم بمثابة طقوس تطهيرية من الألم ومن ثقل الحياة وأوجاعها.
الشاعر الحقيقي هو ذلك الصامت المختبئ خلف الكواليس.
ذلك الذي يردم هاوية العتمة بقطرة ضوء، ثم يكتب قصائده كمراثٍ ونبوءات بعد موته، وفي أسوأ الأحوال يقدمها كعربون ثقة بينه وبين الله. الشاعر الحقيقي يدرك في ظلمة أعماقه أنه جحيم مسافر بين الأزمنة الغريبة،أو ربما كان خطأ كبيرا في الزمان الخطأ والمكان الخطأ.