د. نادية هناوي
من المفروغ منه نقدياً أن أدبنا العربي ذو تاريخ اجناسي غائر في التاريخ يمتد إلى ما قبل الاسلام بزمن طويل، وفيه عرف العرب مختلف أنماط الشعر والنثر التي تفاوتت شكلا وأسلوبا ما بين الخبر والخرافة والاسطورة والمثل والايام والخطابة والسير والقصيدة طبعا، قبل أن تنشأ فكرة الدولة بسلطاتها الدينية أو الاقتصادية أو السياسية. ولما ظهر الاسلام تعززت هذه الانماط بتأثير القصة القرآنية والسير النبوية الامر الذي جعل منها أنواعا نثرية مستقرة تدوينا أو مشافهة كالخطابة والحكاية والرسالة والمقامة والرحلة والتواريخ والاخبار والسير والتراجم.
وعلى الرغم من تلك المفروغية التي هي بمثابة مسلمة نقدية، ما زال التشكيك في غنى أدبنا العربي قائما والدليل ظهور دراسات بعضها يتخذ شكل مشاريع بحثية كبرى تتولى إعادة النظر في موروثنا الادبي ولا سيما السردي محاولة الوقوف على حقيقة غناه وتنوعه. وآخرها الكتاب الذي أصدرته جامعة اكسفورد( تقاليد العرب الروائية) وبأجزاء كبيرة ثلاثة هي على التوالي( الاستمرارية) و( التطورات) و( الشتات).
وتكمن أهمية هذا الكتاب في الاطروحة التي اشتغل عليها مؤلفو الكتاب السبعة والثلاثون باحثا، والمتعلقة بامكانية وجود تقاليد روائية عربية رغبة في معرفة مصدر نشأتها وكيفية تطورها، والغريب أن الكتاب استبعد القصة القرآنية والسيرة النبوية مع أن فيهما من التقاليد السردية ما أثر بشكل مهم ومباشر على مسار الاجناس النثرية التي وصلت إلينا.
أما ما طرحه محرر الكتاب البروفيسور وائل حسن في الفصل الاول المعنون ( نحو نظرية في الرواية العربية) فإن تلك النظرية في الحقيقة ليست سوى جمع للمتناثر من الآراء البحثية والنقدية الدائرة حول هذا الموضوع، بدءا من الناقد أيان وات Ian Watt( 1917ـ1999) صاحب النظرية التي تقول بأثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في صعود الرواية التي تضمنها كتابه ( صعود الرواية دراسات في ديفو وريشاردسون وفيلدنغ ) الذي اعتمد عليه د. عبد المحسن طه بدر اعتمادا كبيرا في أطروحته للدكتوراه ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870ـ 1938) ومرورا بكاظم جهاد حسن الذي أخذ عنه المحرر رأيا مهما كان قد طرحه عام 2006 ومفاده أن كثيرا من التقاليد السردية الضخمة في أدبنا العربي تفند الرؤى حول أثر الرواية الاوربية في الرواية العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكيف أن الرواية الانجليزية والفرنسية ترجمت الى العربية ثم قلدت وتكيفت واختلطت مع أنماط السرد العربي. وانتهاء بفرانكو مورتي Moretti Franco الذي اعتمد فرضية المرونة في تقويم الادب بين الصيغ الرئيسة والمحلية في كتابه( الغرافيك الشجرة الخارطة: نماذج مجردة في دراسة تاريخ الادب) ومقالاته عن القراءة البعيدة والقريبة التي وجد فيها وائل حسن منهجية جديرة بأن تساعدنا في دراسة التقاليد الروائية عند العرب كجنس وعصر وظاهرة تربط الفن بالايديولوجيا وأحكام القيمة.
وجينالوجيا التسمية ( الرواية) تدفعنا إلى أن نقف عند الكيفية التي اتبعها وائل حسن مبينا أنها أخذت من الفعل ( روى ) ثم اشتقت المفردات رواة وروي.. والراوية هو “الجامع المتحيز والمتتبع لذلك الشاعر ثم صار الراوية الناقل عن النبي ماذا قال وفعل مما يعرف ب( الاسناد ) أي المصدر المستمع ضمن سلسلة من سمع أو سمعت من غيرها عن النبي”.( ينظر: مقدمة الكتاب) وهو مما عرف في تراثنا بالعنعنة.
وبالتدقيق يظهر لنا أن مفردة (رواية) لا تعني دلالة الروي المباشرة وهي السقاية أي جلب الماء بالمعنى الحسي التي تطورت اصطلاحيا إلى “التعيين والابلاغ عن المعلومات والأخبار” (مقدمة الكتاب) وانما هي مجازية تعني النقل والتوصيل المقترن بتلقي الادب العربي وكأن الادب هو الماء الذي لا بد من توصيله الى المتلقي كي يتذوقه شفويا او كتابيا راويا بذلك ظمأه إلى الجمال أو المعرفة، كإشارة الى أن العرب منذ زمن بعيد تعد الادب جزءا متخيلا وجماليا من حياتها الواقعية الصعبة، ومثلما أن لا حياة للكائن من دون الماء كذلك الادب هو الماء الذي به تنتعش الروح وتبرأ من اسقام الواقع المعيش. وهذا المسيب بن علس يفاخر بقصيدته التي هي من القوة والجدة ما يجعل امر روايتها اي نشرها ونقلها بين الناس غريبا وغير معتاد في تذوقها والاستمتاع بها:
فَلَأُهدِيَنَّ مَعَ الرِياحِ قَصيدَةً مِنّي مُغَلغَلَةً إِلى القَعقاعِ
تَرِدُ المِياهَ فَما تَزالُ غَريبَةً في القَومِ بَينَ تَمَثُّلٍ وَسَماعِ
واذا كانت أمة مثل أمة العرب ترى الادب ارواء لظمئها الجمالي، فمن الطبيعي أن تكون لها تقاليدها السردية الخاصة، ليس ذلك حسب بل لها تأثيرها في آداب أخرى ستأخذ عن أدبها، ولاسيما النثر شيئا كثيرا به يصبح ادبها ذا صيغ سردية جديدة كما حصل مع الادب الاوربي الذي لم تكن له في العصور الوسطى الا قصص الرعاة والفروسية والشطار والرومانس لكن تأثرها بالاجناس السردية العربية مثل القصة الفلسفية والسير الدينية والمقامات والمنامات والرحلات والرسائل جعلها تقفز نوعيا نحو ظهور أدب واقعي سمي مع عصر النهضة بالرومان اولا مثلته رواية دون كيشوت كأول رواية عرفتها اوربا والتي أعلن مؤلفها تأثره بالارث السردي العربي، ثم ما عرف فيما بعد بالنوفل Novel التي لها الدلالة نفسها التي تعنيها بالعربية( الرواية) بمعنى التوصيل بغية التذوق والاشباع. وبهذا يغدو الموضوع في أصل التسمية معكوسا من الرواية الى النوفل وليس من النوفل الى الرواية.
ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن المسألة هي نفسها حين نناقش وجود التقاليد الروائية العربية التي هي اصلية لدينا لكن الاخر أخذها منا ثم بنى عليها وطورها ليعيدها في صيغة بدت لنا جديدة غريبة علينا فتأثرنا بها وكأننا بذلك نقترضها اقتراضا من الغرب وليست هي بضاعتنا التي ردت إلينا. تلك البضاعة التي وضع الرواة الاوائل تقاليدها كي يحظى سردهم بالمقبولية من لدن مستمعيهم، أيا كان هذا السرد قصة أو سيرة أو اخبارا أو ملاحم شعبية عن بطولات سيف بن ذي يزن وقصص بني هلال وغيرها .
هذا التتبع لجينالوجية التسمية وتاريخية النشأة تفند الرأي الذي يرى الرواية جنسا اوربيا مستوردا مما كانت قد اكدته دراسات بعض النقاد العرب والغربيين ومنهم روجر الن وبعض الروائيين العرب في النصف الاول من القرن العشرين ممن اعتقدوا ان لا علاقة للرواية والقصة القصيرة بالاجناس السردية العربية القديمة على أساس أنها تفتقر الى تقاليد عربية في التخييل السردي.
وبالطبع لا يخلو هذا الموقف من نزعة منحازة للاستعمارية التي فيها ظهر سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي فراكفوني أثار حفيظة رجال الدين آنذاك، كظهور مدارس تبشيرية اوربية وأمريكية بين الأعوام 1830 و1850 وبعثات وحركات ترجمة واضحة مهدت لظهور الرواية عند العرب مطلع القرن العشرين.
ويتماشى هذا الموقف مع الاستشراق الذي أراد اظهار التفوق الحضاري الاوربي على العثمانيين والعرب، والمؤسف أن هذا الموقف شاع كذلك في الدراسات الاكاديمية عن الرواية العربية التي ظلت موسومة بعدم النضج وعدت نتاجات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ساذجة وبدائية او تعليمية وترفيهية. وظلت فكرة اللحاق بالغرب سائدة وأن الاجناس الرواية والقصة القصيرة والدراما هي أجناس غربية حتى غدت فكرة غربة الرواية مترسخة ومتعارفا عليها عند النقاد متعاملين معها كجنس أوربي وصل إلينا مترجما خلال القرن التاسع عشر متجاهلا أي أرث عربي، الى أن تخلصت الرواية في الستينيات والسبعينيات من تأثير الاجناس السردية الكلاسيكية الغربية وابتعدت عن تقليد السرد الاوربي الواقعي، وظهرت على نحو واسع استعادة أعراف من المرورث السرد العربي.
وبالمقابل هناك نفر من النقاد عارضوا هذه الافكار وشددوا على تأثير الموروث السردي العربي في الادب الاوربية ومنهم د. محمد غنيمي هلال الذي عد القصص الاصيلة كرسالة الغفران والمقامة وحي بن يقظان والقصص الدخيلة كالف ليلة وليلة وكليلة ودمنة هي مصدر البيكارسك الاسباني ودون كيشوت وقصائد لافونتين وروبنسن كروزو، ناهيك عن التأثير الكبير لليالي العربية على الآداب الأوربية الحديثة منذ القرن التاسع عشر وأدب امريكا اللاتينية في العشرينيات بمدرسة الواقعية السحرية.
وفي كتابنا الموسوم ( موسوعة السرد العربي معاينات نقدية ومراجعات تاريخية) الصادر في الاردن 2019 أشرنا إلى “أن السرد العربي الحديث كانت له أرضية مبنية على منجز تراثي سردي، الأمر الذي أتاح للسرد الحديث الإفادة من الرواية الغربية المترجمة والمعربة واستطاع أن يبني له سردية حديثة منطلقة من صميم الواقع وتجاربه الذاتية” الكتاب ،ص64.
كل هذه الأدلة تجعل المفارقة ساخرة ونحن نقارن بين تقاليد الحداثة الاوربية وتقاليد العرب الروائية، منقسمين إلى فرقاء متباعدين في الرؤى والحجج والمعالجات، بينما المفيد هو أن ننحو بالامر منحى أشمل ونقول إن التقاليد السردية في كل زمان ومكان هي أرث إنساني، أسهم فيه أول سارد في التاريخ البشري وسيسهم فيه آخر سارد مبدع يظهر في ما بعد.