فوزي عبد الرحيم السعداوي
بعد أسابيع من ثورة 14 تموز 1958 تشكلت المحكمة العسكرية الخاصة المعروفه بـ “محكمة المهداوي” لمحاكمة رجال العهد الملكي وقد افتتحت جلساتها بمحاكمة الشخصية اللواء غازي الداغستاني، وفي وقت المحاكمة التي كانت تنقل حية مباشرة تفرغ الشوارع وبما أن أجهزة التلفزيون لم تك قد انتشرت فكان الناس يذهبون للمقاهي ليتابعوا مجريات المحاكمة.
أما في بيتنا الذي كان الوحيد بالمنطقة فيه جهاز تلفزيون ومنذ تأسيس المحطة عام ١٩٥٦ فقد كان الجيران يأتون وقت المحاكمة ويدخلون دون حتى الاستئذان أو طرق الباب.
لم يعد الشارع يفرغ يوما من متظاهرين موجودين لسبب ما خصوصا بعد ان بدأت سيطرة الشيوعيين على الشارع تزداد بوضوح لذلك كانوا يبتدعون المناسبات من أجل اختبار وتعزيز سيطرتهم على الشارع، هكذا كان الحال في مناطقنا حيث لم أك أتصور وجود عالم آخر لا يحبون فيه الزعيم وهو ما أختبرته يوما ودفعت ثمنه، ففي الأيام اللاحقة لفشل حركة الشواف طافت شوارع بغداد مسيرات تندد بالمؤامرة وتحيي حكم الزعيم قاسم.
خرجنا من المدرسة أو أخرجنا، وبعد ان أكملنا طريقنا وسط الأزقة الضيقة وصلنا إلى شارع الرشيد حيث التحقنا باحد التظاهرات، لم نعلم إلى أين تذهب التظاهرة فقط كنا نردد ما يهتف به الكبار… الله أكبر جمال مخبل…. هوب هوب عفلق…. كدامك الطسه.. جمال وكع بالخ… محد سمع حسه… أنعل أبو الشواف لا بو وحدته..أوهو…تسعين ألف دولار جوه عمامته.
بعد ذلك واجهنا تشييعا لا أعرف ان كان رمزيا أم حقيقيا لكامل قزانجي الذي قتله انقلابيو الشواف في الموصل مع آخرين وأتذكر ان الجمهور كان يمضي بشكل منضبط على إيقاع حزين يقول.. حيوا كامل قزانجي شهيدا .. مات من أجل العراق، لم يكن قزانجي شيوعيا لكنه مناضل يساري كان عضوا في الحزب الوطني الديمقراطي حيث نفاه النظام الملكي خارج العراق.
معي في التظاهرة كان أخي سعدي الذي كان في سنته الدراسية الأولى، لكنه بمجرد وصولنا إلى شارع الرشيد استقل عني ولم يعد بمعيتي.
ظللنا نمشي ولم نلاحظ تناقص أعدادنا وغياب الكبار الذين كانوا يقودوننا، لم يبق في التظاهرة سوانا طلبة الابتدائية لكننا لم نأبه ولم نفهم مايجري، كنا قد وصلنا الاعظمية التي كانت تعيش ظروف مختلفة، حاولنا ان نفعل ما يفعله الكبار فتوجهنا نحو إحدى المدارس بنية إخراج الطلبة من الدوام ليلتحقوا بالمظاهرة واذا بنا نفاجأ بهجوم بالعصي من أشخاص بعضهم خرج من المدرسة… تعرضنا للضرب لكننا لم نفهم ماالذي يجري..لم نتصور وجود معارضين للأوضاع السائدة أو ان يكون أحد لايجب الزعيم.
في الأسابيع الأولى بعد الثورة كان منظر المقاومة الشعبية مألوفا في الشارع لكن ذلك اختفى بعد وقت قصير، لكن كانت ثمة ظاهرة أخرى منتشرة في مناطق متفرقة من شارع الرشيد وخصوصا أماكن توقف الباص كان يجلس أفراد أمامهم أوراق يكتبون عليها، كانت تلك عرائض موجهة إلى الزعيم أو إلى جهة رسمية تطالب بأمر ما او تستنكر شيئا آخر.
لم أشهد أو المس وجود معارضة بأي شكل في مناطقنا عدا ماكنت أقرأه لبعض الصحف المعادية للشيوعيين عدا عن المعلم فاضل وترويجه الأفكار القومية مدير المدرسة يساري وكذلك بقية ألمعلمين، كل صباح كان يتقدم أحد التلاميذ ليلقي قصيدة في تمجيد الوضع أو امتداح مناقب الزعيم، وأذكر مثلا قصيدة مطلعها: “أنظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة” فاذا بها تحرف حسب الظرف السائد لتصبح: “انظر لتلك البقرة ذات القرون القذرة كيف نمت من كالة وكيف صارت قندرة” بالطبع المقصود بالقصيدة تحقير البعثيين وحلفاءهم.
كانت محكمة الشعب عدا عن دورها في محاكمة خصوم النظام (بعد محاكمات رجال العهد الملكي ابتدأت محاكمات المساهمين بحركة الشواف ثم منفذي محاولة اغتيال الزعيم) فانها كانت منصة إعلامية تتكفل بالرد على اعلام جمال عبد الناصر الذي كان مسفا في هجومه على الوضع في العراق وعلى قاسم شخصيا وهو ماكان لا يجد ردا من الأخير.
كان المهداوي شخصية بغدادية، يحفظ الكثير من الشعر والأمثال ويقول أي شيء يأتي على باله مازال ذلك فيه مدح الزعيم أو نيل من أعداءه، وقد تعرض بسبب ذلك لكثير من الانتقادات التي تم الرد عليها بهتافات في التظاهرات مثل باسمك ياشعب يحكم المهداوي وقول منسوب لقاسم “اني اؤيد كل حرف يقوله رئيس محكمة الشعب”.