محمد جبير
تجارب الشعراء مع السرد كثيرة، ولكن ليس كلّ تلك التجارب تكون نجاحه أحيانا، إذ يبقى للرواية سحرها وجاذبيتها في تغيير المسارات الكتابية للكثير من الشعراء في التحوّل من الشعر إلى السرد ويبدعون في الكتابة السردية،متجاوزين في ذلك تجربتهم الشعرية، فقد تعرف المتلقي العربي على الكثير من تلك التجارب السردية على شكل يوميات أو اعترافات أو مذكّرات أو نصوص سردية في السيرة والتجربة الادبية أو السيرة الأدبية أو الروائية، وهو الأمر الذي لا يختلف كثيرا عن تجارب الكُتّاب في الغرب،إذ إنّ الشواهد كثيرة على ذلك، إذ يجد الشاعر في ميدان النثر في بعض الأحيان فضاء واسعاً للبوح، لا يمكن أن تمنحه إياه القصيدة.
أمامي الآن تجربة الشاعر السوري «نديم الوزّه» الصادرة عن دار ديار للنشر والتوزيع في تونس، وحملت عتبه «شهوة الآنسة صوفي»، هذه العتبة المحفّزة للقراءة تبعث رسائل وشحنات تنبش ذاكرة المتلقّي على بعث صور افتراضية أو مختزنة من قراءات متعددة في الرواية الايروتيكية، والتي كانت في زمن ما زاد مراهقتنا الأبدية، فالتواصل مع النصّ سيكون كالحفر في سطور النصّ بحثا عن المفردة والجملة والصورة التي يمكن أن تضعنا أمام يقظة الحواسّ واستنفارها لالتقاط ما تمّ برمجته في الذاكرة مسبقا، والتقاط ما يمكن التقاطه على مهل ومن دون تسرع.
تدلّ النصوص المحيطة في صفحة الغلاف الثانية على انّ هذا النصّ السردي هو التجربة الأولى في كتابة الرواية بعد إصدار عشرة كتب في الشعر والنقد، بمعنى أنّ كاتب النصّ السردي يمتلك الخبرة والدراية في تقنيات وآليات الكتابة، لكن ليس ما في الشعر يفترض أن يكون في السرد، وإن كان السرد أكثر حيوية وإيجابية في تقبّل الأجناس الإبداعية الأخرى، بوصف الرواية أمّ الأجناس الأدبية إذا ما أُجيد التعامل مع هذا الفنّ، ونبقى في حدود التجربة الأولى، ففيها تكمن خطورة المغامرة والإقدام على كتابة النصّ السردي، فهل كانت تجربة «الوزة» تجربة تستحق المغامرة في الكتابة والقراءة؟
تتناغم عتبة النصّ مع المقتبس المثبّت في الغلاف الثاني في تنشيط ذاكرة المتلقّي وتحفيزه على الدخول في عالم تجربة النصّ عبر التراكم الكمّي لتفاصيل الحكاية واكتشاف مهارات إدارة الحدث السردي، جاء في المقتبس «سأشرب لأنسى كلّ شيء مزعج،ولأستمتع بوقتي مع صوفي، أقول بوقتي لأن صوفي ممتعة في كلّ شيء، ممتعة بجسدها الشهي، وممتعة في ممارسة الجنس، وممتعة بروحها النقية، وممتعة بتفكيرها النظيف».
ما يؤكّده المقتبس من فكر نظيف نراه شاخصا في جملة ابتداء النصّ «أفيق على مهل، أبتهج بضوء الصباح، أشعر بصفاء داخلي، أفكّر أنني بذهني النظيف، وروحي الشفافة يمكن بدء الحياة من جديد».» الروايةص5»، كيف يمكن لنا البدء من جديد في حياة اختلط حابلها بنابلها كما يقال، وكيف يمكن أن يكون شكل التلقي لصورة القتل اليومي بحق الشعب السوري الذي وجد نفسه مرغما بين مطرقة النظام وسندان المعارضة، وكيف سيكون فكر صوفي نظيفاً مثلما هو ذهن السارد؟
تلك الاسئلة بقيت مرافقة لي على الرغم من أن أنّي كنت مشدوداً للنصّ في التواصل مع التفاصيل التي كتبت بلغة شعرية عذبة جسّدت جمالية الفعل الإنساني والعلاقة الثنائية المتكافئة بين المرأة والرجل، لتعرض من خلال هذه الثنائية إلى روح مجتمع حيٍّ يبحث عن حياة جديدة خارج مطحنة الموت، من جملة الابتداء هذه يتّضح خطاب النصّ الذي أراد أن يجسّده السارد الشاعر عبر صيغة «الأنا»، حيث يبقى ممسكاً ومتحكّما بإدارة الحدث السردي في الأيام الخمسة من عمر الحكاية السردية في «شهوة الآنسة صوفي».
إذ إنّ الفكر النظيف لدى صوفي والذي التقى بتصميم وإرادة منها مع الذهن النظيف من أجل رسم حياة جديدة بعيداً عن الفكر المتوحّش الظلامي الذي يغتصب البراءة ويشوّه النفس البشرية، وما جاء في سردية الأيام الخمسة من تفاصيل يومية في رسم صورة الحياة الجديدة بين الثنائي صوفي والشاعر من جهة، وعلاقة هذا الثنائي بالعالم الخارجي، وصولاً إلى الخطاب العام الذي أراد أن يؤكّده السارد الشاعر «كان الردّ الحاسم على دعواتي لإبعاد القتال عن القرى والمدن أن المعارضة إنما – تحرر- سوريا من – احتلال- النظام، وكان أوّل شيء لفت نظري هنا في ريف اللاذقية الشمالي أنّ عوائل المسلّحين وأقرباءهم كانوا السبّاقين في الهروب من هذا –التحرير- باتّجاه المدينة ليحتموا بالنظام».» الروايةص186».
إنّ خطاب النصّ هو البحث بين هذه المتناقضات الحياتية عن الحياة الجديدة «ما آسف له إنّني لا أعرف كيف سينهي أشقّائي السوريون الحرب فيما بينهم ؟.. كلّ ما أتمنّاه أن يمنحوا الفنون والآداب اهتماما جادّاً لأرى إن كان بإمكاني مواصلة الحياة بينهم».» الرواية ص192».