يوسف عبود جويعد
“اللهو بالخراب” مجموعة نثرية شعرية، للشاعر سلام مكي، ومن خلال بنية العنونة، التي هي العتبة النصية الموازية للنص، حيث نستطيع أن نستشف من خلالها الإشارة السيميائية التي تفضي بنا الى هذه النصوص، فسرعان ما نكتشف أن هذا الخراب حالة شمولية تغطي فضاء هذه المجموعة، بعد أن نكتشف الانكسار النفسي المحيط بتلك النصوص بسبب ما يجده الشاعر وهو يستكشف وسط معترك خضّم الحياة التي يعيشها، أن هذا الخراب قد استشرى كالوباء وبسرعة مذهلة لينتشر على وجه الحياة، ليشمل كل معالمها، فنجده حاضراً في كل نص شعري مرافق لعناصر وادوات بناءه، ومع التداعيات والتجليات، والهواجس الداخلية التي تستمد حق ظهورها من المفردة المنتقاة من عمق الحس الشعري المرهف، والخيال الخصب، والانزياحية التي تبدو لنا غريبة بعض الشيء، كونها ليست كما اعتدنا عليه في معظم النصوص التي تحيل اللغة الاعتيادية الى إنزياحية من أجل أن تنسجم مع النسق الفني المتبع في عملية صناعة القصيدة النثرية، وإنما هذه الانزياحية متصلة بشكل واضح مع المؤثرات الروحية، والفكرية، والمتأثرة بمضمون وشكل وتكوين النص، وكذلك بوحدة موضوعه وثيمته، وهي نتاج هذا التأثر، وقد أعتمد الشاعر في عملية البنية النصية على العناصر التي من شأنها أن تسمو بالنص الشعري، وأهم تلك العناصر هو لغة السرد (الحكاية) التي وظفت بشكل يتلاءم وينسجم والسياق الفني المختار في تشكيل وتكوين تلك النصوص، والتي هي بطبيعة الحال تنتقل الى تلك الإنزياحية سالفة الذكر، وكما أن بنية العنونة جاءت موازية للنص، فإن عناوين القصائد هي عملية مكملة لهذه العتبة، ومن خلال الإهداء الذي استهل به هذه المجموعة سوف تتوضح لنا تلك الرؤيا كخطوة أولى نحو تحليل النصوص.
إلى الأزقة المبللة بأنين أبي
إلى من يقيم في جسده الرطب
إلى الأمس الذي قضم عمر أمي
إلى أي صباح يوقظ فيها الأمل
الى قطرات الثلج التي تزين رأسها
إلى زوجتي التي ارتضت أن تكون نديمة لصمتي
إليها، قبل أن تشرق في سمائي
الى الأستاذ عباس
الى صديقتي نجية
لكم ما زرعتم
ويبدو لنا ان هذا الإهداء الاستهلالي، هو الدرب السالك الذي سوف يفضي على نحو متصل مع نصوص تلك المجموعة على ذات السياق، كما سوف نجد ذلك في أول قصيدة نثرية شعرية ( أحلام قيد النهار):
ياجرحاً ينزفُ الحسرات
ياعمراً يغط في وجع عميق
يا حناجر طفت بسيول الصدى البعيد
ياصمتي البليغ..
المتوحش حد الضوضاء. الموحش حد الجوع
يا أناي المرهقة
من فرط الارتحال
وهي رحلة استكشافية رائقة في دهاليز الذات المتوجعة، وتداعيات تنطلق من إعماق الروح، لتكون لنا بادرة حسنة نحو المضي قدماً لسبر أغوار تلك النصوص، لننتقل الى القصيدة النثرية الشعرية (قهقهات حزينة) والتي تكشف لنا عن تلك القهقهات وأسبابها ولما هي حزينة:
ذات ضياء بعيد.
هوت أشرعة القارب
واستحال الضباب ألماً، يتدلى
مثل حبال الروح الشّفافة
كنت تسكن في الطبقة الأولى من زوجتك
وبيدك رشاش بلا أسنان
تريدها أن تقضم رصاصتك
لتدك حصوناً، فتحت بالأمس
كل أبوابها، لكنك لن تأت
ذات ضياء قريب..
ومن خلال هذا النص، نكتشف الملامح التي كست فضاء النص، والتي تمنحنا فرصة طيبة لاكتشاف العمل الفني الذي تميز به الشاعر سلام مكي، والتي سوف تأخذ مداً أكبر في قابل الاعمال الشعرية، ونجد في القصيدة النثرية الشعرية
(أمل هزيل..) تلك الرؤية وقد تفاعلت وانصهرت، لتظهر في بناء فني متقن:
لم يعدْ هزيلاً، ثوب وجهي
المرصع بنظرات
سرقتها من وجهك
وجعلت منها
وشماً حلّق بأقصى عينيّ
أرتدي البياض لليل
واعانق السواد
على أنه ليلة وثيرة..
ونجد في القصيدة النثرية الشعرية (اصابع الظل) تناص قد وظف بشكل يتلاءم وينسجم مع ثيمة ووحدة موضوع النص:
ظلٌ
يغمسُ أصابعه في الدهشة
فيلتقطها المارة وعابرو السبيل والناجون من خطايا آبائهم
ظلٌ
حين يدخل يده في جيبه
تخرجٌ بيضاء من شدة السوء
وليس هناك من عصا في يمينه
حتى يهش بها على المه
أما القصيدة النثرية الشعرية (رؤيا) فإنها تقدم رؤية الشاعر الفنية وانطلاقته الشعرية نحو رسم ملامح قصيدته وهي تتشكل وتتكون لتكون هي الميزة التي سوف تميزه عندما يشرع في فن صناعة لقصيدة النثرية الشعرية:
أرى أصابعي وهي تتسلل من مخدعها
صوب الجيوب الخاوية على قروشها
أرى طقوس الغجر المنقرضين وهي ترقصُ فوق الأماكن
المنقوعة
بالعري واللذة
أرى أسلافي المحنطين في ذاكرة الطرق
وهم معلقون بين الضفتين
أراك حزيناً، تجمع بقايا الضباب المختبئ خلف الأشجار
ارى يديك المتعبتين، تحرثان أغصانها الرطبة
ليولد دربٌ ميسميٌ
فأعتصم بحبله السّري
أبحث عن نهر يغمر صحرائي
أبحث عن فجر يطرقُ باب نهاري
وهكذا ومن خلال تلك النماذج المنتقاة من المجموعة النثرية الشعرية (اللهو بالخراب) للشاعر سلام مكي، نكتشف ملامح ظهور نمط آخر من أنماط القصيدة
النثرية الشعرية، قد يظهر في قابل الايام في رؤية شعرية مختلفة، توحدت وتراكبت وتفاعلت وانصهرت في بوتقة، لتكون المسار الذي سوف يختطه الشاعر.