د. نادية هناوي
إنّ لعطاء النقاد العرب المعاصرين في مجال النقد ومبادئه ونظرياته حيزاً مهماً في المنجز الثقافي العربي بسبب ما بذلوه من جهود حثيثة ودائبة في إلتقاط الجديد والمستحدث. ومن هؤلاء النقاد عبد السلام المسدي الذي سعى بحرص وجد حقيقيين إلى مواكبة الجديد نقديا والافادة من الاخر لا بالانبهار والمجاراة بل بالاستعارة والاستئناس. فالّف كتبا نقدية لا غنى عنها لأي دارس عربي؛ لأنها تجمع بين الأصيل والوافد وبين الحديث والمعاصر وبين القديم والجديد والنظري والتطبيقي مقدمات ونهايات وملخصات ومفصلات، فكان منجزه النقدي كبيرا لا يختلف اثنان على جودة ما أنتجه وقيمة ما أبدعه .
وقد أشاد كثير من النقاد والدارسين بجهود الدكتور عبد السلام المسدي الاسلوبية ودوره الرائد في تعريف العالم العربي بالمدرسة الاسلوبية ومبادئها وأصولها وامتداداتها تنظيرا واجراء، حتى تمخضت عن تجربته في القراءة والنقد منظورات نقدية كثيرة منها أن لا مدرسة نقدية ولا منهج حداثي بإمكانه أن يخلص النظر للنص المقروء، وأنه لا سبيل إلى تحقيق النظر الصائب في القراءة والنقد؛ إلا بإنتهاج منهجين أو أكثر، والتقريب بينهما إجرائيا، بغية الإفادة من الطروحات الإيجابية الخاصة بكل منهج وتحقيق التكامل بين كل ما هو شعري واسلوبي وشكلي وبنيوي وسيميائي وتفكيكي ..الخ .
وتأتي كتب الدكتور المسدي التي تجاوزت العشرين كتابا حاملة كما هائلا من النظر النقدي الذي يتوزع بين العناية بالنص والمؤلف او الانغلاق على النص والتقوقع فيه لكن كتابه( أبو القاسم الشابي في ميزان النقد الحديث) ذو ميزة خاصة بين تلك الكتب، لأنه يمثل مرحلة نقدية جديدة تبنى فيها المسدي طروحات نقدية أكثر حداثة ومنهجية فلم تعد ثلاثية التعادل النقدي هي موضع النظر المنهجي في التعامل النقدي كما لم تعد هي الادوات التي يراهن الناقد على استخدامها أو يسعى للتصدي لها؛ بل صارت متعلقات النص الادبي بوصفه خطابا له سياقاته وسننه وقنواته هي المسائل المراهن عليها في النقد, فهناك المغيب الذي يستدعي التأويل وهناك المرمز الذي يستدعي التفكيك والتشريح وهناك الدوال التي تستدعي المدلولات وهناك معان مسترجعة ومعان مهيمنة وهكذا..
وكأن الدكتور عبد السلام المسدي قد أعاد النظر في تجربته النقدية فطور أدواته باتجاه النص الشعري قراءة وتحليلا ونقدا؛ ليرى إن كانت هناك مواطن ما تزال خفية في النص الادبي تحتاج الى مزيد من القاء الضوء وتسليط النظر وتوجيه الفكر إزائها ومن تلك المواطن مسألة التشفير والترميز ومسألة التأويل والتفسير ومسألة المغيب والمعلن على مستوى الدال والمدلول، فهذه المواطن جديرة بالفحص والمساءلة والاهتمام.
وفي هذا التحول النقدي لدى الدكتور المسدي في الادوات والطروحات دليل على وعي منهجي عال مكنه دائما من تطوير أدواته بإعادة تفحصها واخضاعها للاختبار والاستقراء بغية الوصول إلى ما هو أصوب نقديا وأجدى إجرائيا وأنضج حكما وتقييما.
ولا يعني هذا التحول أيضا أن الشعرية كمنهج ومدرسة هي الانجع في عالم الدرس والنقد والتحليل ولكن التحديث في الاطر والاراء والتوجه الانفتاحي على الصعيدين النظري والتطبيقي أمر ضروري وسبيل لا يمكن تجاهله عند أي ناقد أدبي.
ويجد المتفحص لتطبيقات الشعرية عند الدكتور عبد السلام المسدي، أنها تتخذ طابعا نقديا حداثيا، من ذلك رفضه فكرة التناسب بين العمر الزمني والطرح النقدي وأن المعادلة النقدية تقتضي أن نسائل النص وصاحب النص سواء أكان صاحب النص شاعرا أم كان ناقدا؛ ووجه المسدي في الكتاب اعلاه اهتماما خاصا نحو نقد النقد، وهو ما يمثل خطا نقديا جديدا لم نألفه في مؤلفاته السابقة من زاوية اهتمامه بأبنية النص الأدبية والشعرية واتخاذه الشعرية منهجا موضوعيا لا يشتط عن منهجه الاسلوبي فحسب، لكنه ينشق عنه في التحول الاصطلاحي والتوظيف المفهوماتي للجهاز اللغوي النقدي.
وهو يبقي الحدود فاصلة بين نقد خارجي له مقاييس وسياقات وحيثيات القيمة وبين نقد داخلي يأتي بمعاوله ليحفر في آليات النص متسللا الى أعمدة المعمار اللغوي.
ولم يعنَ الدكتور المسدي بوضع الحدود الفاصلة بين النقدين الخارجي والداخلي لعدم إمكانية الاستعاضة عن أحدهما بالآخر اذ قد يؤدي التقابل المنهجي بينهما إلى زاوية يصبح فيها ما هو وثائقي من جهة وما هو نصي من جهة أخرى مندمجين نقديا، ولهذه الزاوية في الرؤية المسدية الأحقية على الصعيد الإجرائي من منطلق أن تكامل التجربة النقدية يقتضي ألا يغفل الناقد عن الذات والموضوع معا.
وفي إطار هذا الطرح النقدي يعزز الدكتور المسدي تجربته في نقد النقد عارضاً لمصطلح(مرآوية التناص) مستخدما ثنائية النص الموضوع/ النص الشاهد بدل ثنائية النص الشعري/ النص النقدي، متبعا آلية نقدية جديدة في قراءة قصيدة (إرادة الحياة) بما سماه التناسخ الحواري كصورة مكثفة لمرآوية التناص وبذلك تحدد اشتغال التناص عنده لا بين النص والشاعر، بل بين النص الشعري نفسه وآلية التخييل.
وإذا كانت دراسة المعجم الشعري لدى الشعراء أو دراسة القاموس اللغوي من اشتغالات الناقد اللساني فانها في بعض الأحيان قد تكون من ضمن اشتغالات ناقد النقد كما فعل الدكتور المسدي وهو يرصد المفاتيح المعجمية من القاموس الشعري للشابي معتمدا على السياق أو المقام في الدلالة على المجاز وتداعيات الحواس.
ويقف الدكتور المسدي عند معطى اللاوعي متأملا ومتعمقا في تجلياته بوصفه مكمن الإبداع وفيه تصنع الذائقة الفنية وفيه تتولد الالفاظ الدالة على هواجس النفس الخفية والغائرة، وقد بحث عن مواطن الالهام الشعري وموارد الصوغ والتركيب من خلال مذكرات وأقوال ساقها أبو القاسم الشابي نفسه عن العقل الباطن والعقل الواعي رصيدا معرفيا، وتتبع فضاءات المرجعية الشعرية لدى الشابي فوجدها تكمن في السيرة الشعرية والبيئة ومذكرات الشاعر عن والده والتكوين الخلقي والمدارس والكتاتيب، مؤكدا أن للنص القرآني أثرا مهما في بلورة السليقة اللغوية لدى هذا الشاعر.
وهذا البحث قاد الناقد المسدي إلى موضوع اثير آخر هو العلاقة بين ما هو شعري ومقدس من جانب وبين العثور على الذات من جانب آخر، كما تناول التقابل بين الوعي النقدي واللاوعي اللغوي ويعني العفوية التي تدفع الذاكرة في بعدها التكويني العميق الى إجتلاب اللغة بالتداعي على لسان الشاعر.
واستقرأ الدكتور المسدي النص الغائب من وراء النص الحاجز واقفا على مكونات الصورة الشعرية، وكأنَّ أسرار الشعر لا يكشفها إلا الشعر وهذا الشعر لا يحلل إلا بالنص المنبثق من الذاكرة فهو منبع الالهام للإبداع وإن كانت السيرة لا تقل شأنا في الكشف عن مكامن التجربة الشعرية ايضا. ولعل مكمن التحدي في الرؤية النقدية لدى المسدي هو الإحساس بإن الشعر والشاعرية فضاء مفتوح وإبداع حر بلا قيود وأن لا تصادم بين النص الشعري واستلهامه للنص المقدس عبر اللغة ومجازاتها وما كمن في ذاكرتها.
ليختتم دراسته النقدية بخطاب موجه للقارئ يدعوه فيه إلى الاناة والصبر وترك الوثوب والعجلة، فالنص بنوعيه الإبداعي والنقدي يحتاج إلى المحاورة فهو مراوغ ولا سبيل لذلك إلا بالدراسة النقدية المنهجية ومنهجية المسدي هي بتوظيف اللسانيات في ميدان النقد الادبي عبر إستحضار القاموس والمعجم والموروث والحاضر.
والاشتغال المنهجي لا يكون صحيحا إلا بالذائقة النقدية التي تلهم صاحبها المزاوجة بين هذا المنهج أو ذاك من أجل تحقيق التكامل الذي هو على أنماط منها التكامل بين الخاص والعام ومنها التكامل في الظاهر والباطن وتكامل الرؤية والتطبيق. وهو ما سعى إليه الدكتور المسدي فتمكن من بلوغه بجدارة.