عاطف أبو سيف*
بالقدر الذي كان قرار الجنائية الدولية مفاجئاً بقدر ما كان متوقعاً. فالعالم الذي يخشى إسرائيل بسبب أزمات كثيرة مرتبطة بتاريخ الغرب اتسم دوما بالتردد في كل ما يتعلق بإسرائيل من إجراءات. بل إنه تم تعطيل القانون الدولي وغض النظر عن تجاوزات إسرائيل الخطرة بحق القواعد المنظمة لعمل التنظيم الدولي، بل تم في كثير من الأحيان إيجاد الأعذار التي لا تصمد أمام منطق النمل من أجل تجاوز تلك الانتهاكات. لم تتمتع دولة في التاريخ الحديث بنعم وفوائد القانون الدولي بقدر ما تمتعت به إسرائيل وفي نفس القدر لم تنتهك دولة هذا القانون بقدر ما انتهكته إسرائيل وإن فعلت بعض الدول ذلك فلم تنج قط من عواقب تلك الانتهاكات. وحدها إسرائيل دائماً كانت تنجو وتتمتع في نفس الوقت بكل ما يمكن أن يوفره لها القانون من مزايا. ومع هذا فإن وقوف القانون الدولي والمنظمات القائمة على تطبيقه عاجزة عن ردع إسرائيل نابع ليس من قوة خارقة لدى الدولة التي وجدت بقرار من المجتمع الدولي بل لعجز ذاتي في تلك المنظمات. في معظم الحالات تحرك المجتمع الدولي وقام بردع من انتهك قوانينه بل تم شن حروب وتم تفعيل مواد وأبواب من أجل الدفاع عن هيبة القانون الدولي وحمايته في الكثير من الحالات إلا في حالة إسرائيل، لم يتردد التنظيم الدولي ومؤسساته بالكشف عن عيوبه وعجزه وتردده.
في المقابل، فإن الدولة التي تقوم بكل ذلك هي ذات الدولة التي خلقت بقرار أممي من مؤسسات المجتمع الدولي. وربما على عكس كل خبرات الدولة وقصص تكوينها فإن إسرائيل وحدها وجدت بطريقة غريبة لا تمت حتى إلى تلك الخبرات بشيء. فالدولة تنشأ بعد وجود شعب على قطعة محددة من الأرض ينتظم عليها وجوده منذ قرون وبعد ذلك ومع تراكم هذا الوجود تنشأ علاقات جوار مع الدول المحيطة يتم وفقها الاعتراف بوجود الدولة في إقليمها المحدد. وإن قراءة تاريخ التكوينات السياسية يكشف أن الاعتراف الخارجي كان دائماً آخر مراحل التكوين الذاتي للدولة باستثناء إسرائيل التي تم خلقها بقرار خارجي يعكس رغبات المجتمع الدولي في فرض دولة غريبة في منطقة متجانسة. وعموماً، فإن الجهد الكبير الذي بذلته الدول الكبرى في خلق الدولة الغريبة عن المنطقة وغرسها في جسدها تمت مقابلته بنكران كبير للقانون الذي شكل شهادة ميلادها. وربما يبدو من باب سوء تقدير الحقيقة القول إن إسرائيل تنكرت للقانون الدولي رغماً عن الدول الكبرى التي أسستها، بل إن تلك الدول ساعدت الدولة الجديدة في خرقها للقانون واعتدائها على جيرانها. وليس مفارقة أن العالم الغربي كله حتى اللحظة لم يعترف بالدولة الفلسطينية ويريد لها أن تقوم بموافقة إسرائيل، ويشترط اعترافه بها بتلك الموافقة. أي غرابة تلك حين يشترط الاعتراف بآلام الضحية برغبة الجلاد في المزيد من تعذيبه.
قريب من هذه القراءة حقيقة الرهبة الإسرائيلية من القانون الدولي رغم ذلك. جرت مياه كثيرة تحت الجسر وتبدلت أحوال التنظيم الدولي وجرت تعديلات على مواقف بعض الدول الكبرى، ونجح الفلسطينيون في إحداث تغيرات مهمة في مواقف تلك الدول والمنظمات. كان ثمن ذلك الكثير من الدماء والمواجهة والنضال في المحافل الدولية تكلل بالكثير من النجاحات. وربما أدرك الفلسطينيون قيمة النضال في المحافل الدولية كلما تقدموا في نضالهم المسلح ضد إسرائيل من أجل تحصين نجاحات هذا الكفاح. ومع هذا، ظل المجتمع الدولي ينكر على الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير وفي الدولة. ورغم الانزياحات في مواقف أوروبا التي بدأت مع استدارة ديغول الشهيرة عقب حرب حزيران 1967 وتقرير شومان وصولاً إلى إعلان البندقية وبعد ذلك إعلان برلين. عموماً، التاريخ لا يتم نسيانه لأنه في عملية متراكمة من الاختراع والتجدد، وهذا يعني أن نكران الحق الفلسطيني من قبل أوروبا لم يعن تخلي الشعب الفلسطيني عن أحلامه. ومع تراكم النضال القانوني والنضال في المؤسسات الدولية أحرز الفلسطينيون بعض النقاط، فيما ظلت محاكمة إسرائيل الرعب الذي يعجز المجتمع الدولي عن تحقيقه وترتعب إسرائيل خشية وقوعه.
ومع القرار الأممي الجديد فإن المجتمع الدولي بات أمام فرصة استرداد بعض كرامته أمام الجرائم الكبرى التي تنتهك منذ أكثر من سبعة عقود أمام عينيه. المجتمع الدولي ومؤسسات العدل فيه أمام امتحان كبير حتى يتم اختبار مدى جدية العالم في الانتصار للقوانين التي شكلت النسيج الحافظ للتنظيم الدولي. وأمام هذا الاختبار فإن المطلوب الانتصار للضحايا أمام سوط الجلاد، ومطلوب وضع المجرمين في السجن كما تم في حالات أقل وحشية مما حدث في فلسطين. بل في بعض الحالات كان يتم استلال كل السيوف من أجل وضع المجرمين في الأقفاص فيما يظل كبار مجرمي الحرب في العالم من جنرالات ذبح الشعب الفلسطيني طلقاء.
صحيح أن هذا انتصار لكنه لا يكفي، إذ يجب امتحان جدية العالم في تطبيق العدالة. العدالة التي تم ذبحها باسم القانون الدولي والذي سوغ للدولة المارقة على القانون ارتكاب الجرائم باسمه لأنه من أوجد تلك الدولة. وعليه يجب مواصلة الضغط من أجل الحد الأدنى من العدل حتى يغفو الضحايا بالقليل من الراحة وحتى يتم تقديم بعض الدروس ولو المتأخرة لكل من يريق دماء الآخرين. العدل لا يتحقق بالبلاغة بل بالفعل.
- صحيفة الايام