يبدو ان محنة اسلافنا والتي تضمنتها عبارتهم المترعة بالضيم والألم “بين العجم والروم بلوه ابتلينه” ما زالت تلقي بظلالها الثقيلة على مصائرنا الحالية. ويمكن اقتفاء أثر ذلك في الخيارات الفعلية لا الطوباوية واضغاث احلام سكراب الانتلجينسيا، والتي تضيف لالتباس وعتمة المشهد الراهن المزيد من العجاج والضياع. الخيارات الفعلية وبعيدا عما تنسجه بعض المخيلات المجنحة لمن تقمصته روح المرحوم تروتسكي في الوقت الضائع، لا تحتاج الى ذكاء خارق كي يتم التعرف عليها، يكفي ان نتوقف قليلا عند القوى والجهات ومصادر التمويل التي تقف خلف، كل هذا الكم الهائل من وسائل الاعلام التقليدية منها والحديثة “السوسيال ميديا”، والتي تتلاعب وبشكل غير مسبوق بالقدرات الذهنية للمتلقين ودقلاتهم المفاجئة، لا سيما في مجتمعات عاشت تحت وطأة أبشع الانظمة التوتاليتارية لعقود متتالية؛ كي نتعرف على علل غرائبية ما يجري على تضاريسنا المستباحة. زمن النظام المباد كانت ماكنة الاعلام الحكومي الاخطبوطية، قد حملت هم المعرفة والمعلومة وابداء الرأي ومشاق حرية التعبير عن الجميع (افرادا وجماعات) عبر وضع كل ذلك على كاهل من انتشل مذعورا من جحره الأخير والذي (اذا قال … قال العراق).
غير القليل ينزعج بشدة من عروجنا المستمر و “المزعج” الى تلك الحقبة المشؤومة في تاريخ العراق الحديث، بوصفها قد انتهت وفقاً لخطابهم الديماغوجي والمستند الى احتياطي هائل من المكر والدهاء، لا يطيقون تعقب آثار وعواقب تلك الحقبة المدمرة على ما يجري حاليا من عجز وفشل مجتمعي ومؤسساتي. بقايا مؤسسات وسكراب نقابات وتنظيمات، أدمنت عقولها وترسانتها من الديباجات والسرديات على اتقان فن واحد لا شريك له الا وهو؛ “تصوير الهزائم على انها انتصارات” من الصعب عليها تغيير مهنتها وما أدمنت عليه من تخصص بين يوم وليلة، لذلك نجدها اليوم لم تتأخر عما شقته “حليمة” من عودة ميمونة لـ “عادتها القديمة”. وهذا ما يمكن التعرف عليه مع “الاعلام” الذي نهض من ذلك الوحل. كل من يتحدث عن وجود ودور للاعلام الحر والمهني والمستقل قبل “التغيير” وبعده (وجود ودور مؤثر لا عابر) يحتاج ان احسنا الظن به؛ الى اعادة نظر بالمعطيات والادوات التي يستعين بها على فك طلاسم ما يجري على تضاريسنا المنكوبة بكل أنواع الهذيانات والجودليات العقائدية والكبسولات الثوروية الجاهزة.
ماذا يعني مثلاً؛ عجزنا عن امتلاك أية وسيلة اعلامية ورقية أو سمعبصرية أو منصات مؤثرة في مواقع التواصل الاجتماعي، تكون حرة حقاً وتنطبق عليها معايير المهنية والاستقلال ووضوح التمويل و…؟ مقابل ذلك؛ كل هذا الطفح الهائل من الصحف والمطبوعات والفضائيات والاذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي وما تضج به من صفحات ومنابر ومنصات وعناوين طنانة، والدور الذي لعبته طوال أكثر من 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، يتم فيها تصفية ملفات وارث الحقبة التوتاليتارية، لصالح التأسيس لمشروع دولة المواطنة ومؤسساتها وتشريعاتها الحديثة. يمكن للمتابع المنصف وبقليل من الجهد التعرف على منتوجات هذا الوحل الاعلامي، والذي يتقافز بكل رشاقة وصفاقة بين مختلف المتاريس المتناهشة، فلا يشعر بادنى احساس بالخجل من كونه ما زال يقبض من الحكومة، ويتزحلق بكل خفة على موجات غضب المحتجين والساخطين على فسادها وعجزها وشراهتها. وسط كل هذه الديناميكية لـ “البلوة” التي اشرنا اليها والضخ اللامحدود للاموال والملاكات المدجنة؛ ما نوع “المعلومة” التي ستصلنا من نهاية هذا النفق المتخم بالعتمة والالتباس ومقذوفات الوحل الاعلامي الدخانية..؟
جمال جصاني