كه يلان مُحمَد
تظهر النساء في صورة شخصيات مُتمردة غير مقيدة بحدود مرسومة، الأمر الذي قد يصدم الوعي التقليدي والخطابات التي تقصر كينونة المرأةَ في الوظيفة التزيينية ،وبما أنَّ العنوان علامة يتواصلُ القاريءُ عبرها مع مضمون العمل وبناءً على ماتقدمه العتبة الأولى تتوالدُ التوقعات حول مايكتنزه النص من الموضوعات،والرؤى ،والأفكار.لذلك تُفضلُ صاحبة (الذئابُ لاتُنسى) الكشف عن طبيعة ماتُقيمُ عليه عوالم رواياتها من خلال تعين أسماء أو صفات النساء عنواناً، وهذا ما يتبين في روايات (نازك هانم)، (سلطانات الرمل)،(ألماس ونساء).إذ تتمسك بهذا الأسلوب أيضاً في رواياتها الأخيرة الصادرة بالإشتراك من «مشنورات ضفاف « بيروت ،»ومنشورات الإختلاف» الجزائر.2017.ترحل بنا مؤلفة (بنات النعش) في عملها الجديد إلى مطلع القرن العشرين دون أن تخوض في تفاصيل تأريخية بل أنَّ هذا الجانب لايهمها إلا بقدر ما يخدمُ الشخصية الأساسية (نسليهان) التي تُعاكس المنظور السائد،وتتجاوز تطلعاتها ما تسمعه من رائدات تحرير المرأة،وفي ذلك تعتمدُ على وصفة مركبة من الرغبة الذاتية والشعوذة والوجد الصوفي وقراءة الكتب والروايات،يُذكر أنَّ الكاتبة تستشهدُ بمقولات الكتاب الآخرين في مُفتتح كل فصول وهذا مايكون بمنزلة جمل كاشفة لما يحملهُ كل مفصل جديد من التطورات.هذا إضافة إلى توارد شذرات من حكم وأشعار المتصوفة أمثال إبن عربي وجلال الدين الرومي.ولايأتي كل ذلك لملء الفراغات أو لمجرد تزيين فضاء النص بمقولات العارفين والمشاهير،إنما تنجلي الضبابية عن وظيفة هذه المفردات مع معرفة تركيبة الشخصيات التي تتقاسمُ فضاء الرواية،إذ تتحول البنية المكانية وهي قصر محمود باشا في مدينة دمشق إلى مسرح تنبسطُ عليه حكايات الوافدين من النساء،إذ تتباينُ جنسية وديانة محظيات القصر، وذلك مايُكسبُ العمل تنوعاً على مستوى الشخصيات،مع أنَّ شخصية نسليهان تبدوُ نواةً للرواية غير أن ذلك لايعني سحب الأضواء عن الحبوبة آسيا ،داد بحري ،جيهان، فرلان خانم،توركان خاتون.أن حضور ناسلي من بداية العمل إلى نهايته فضلاً عما ينبيءُ به العنوان عن مركزيتها،لايجعل أدوار الشخصيات الأخرى باهتاً.
شخصية مُتخيلة
الشخصية الروائية هي كائن من الورق على حد قول (رولان بارت)،وقد تتلبس هذه الكائنات المتخيلة بشخصيات تاريخية أو واقعية لذا درجت العادة لدي بعض الكُتاب أن يشيروا إلى أن أي تشابه بين ماترد ضمن نصوصهم من الشخصيات وما تجده داخل أطر الواقع ليس إلا محض صدفة،تؤكدُ مؤلفة لينا هويان الحسن في مدخل عملها على أنَّ نلسيهان شخصية أوحى بها الخيال ،ولم تنتقلْ من صفحات كتب التاريخ إلى فضاء الرواية،بل الكاتبة قد إخترعت شيرة لهذه الشخصية التي تتداخلُ في تكوينها السُلالات والجنسيات والحكايات المتعددة،وهي إنفتحت مداركها في أجواء البيئة الدمشقية،بما لها من الخصوصية على المستوى الإجتماعي والدينى والسياسي ،إذ أن دمشق ليست مدينة بلون واحد بل تقع على أشكال وأنواع مُختلفة من دور العبادة والمعتقدات والشواهد العمرانية في تلك البيئة الحضرية،إذ يكون هذا الشق التاريخي حاضراً في سياق الحوار المتبادل بين نلسيهان ويوسف اليهودي،يُذكر أن الشخصية الأساسية تنبشُ في طبقات بعض معالم حضارية مثل الجامع الأموي،ولا يعلمُ أحدُ غير يوسف سر إعجاب (بنت الباشا) بالكاتدرائية المريمية،حسبما يُبلغنا الراوي بذلك،هذا التنوع في بناء المدينة يضارعه مايضجُ به القصر من شخصيات ذات خلفيات دينية غير مُتجانسة في الطقوس والعبادات، وهذا له إنعكاسات في سلوك وتفكير نسليهان،أكثر من ذلك فهى نشأت على كنفِ أمرأة من صابئة آسيا وعمدتها على طريقة ديانتها عندما بلغت الخامسة والأربعين من عمرها، فضلاً عن ذلك تعلمت العزف على البيانو من ناستيا الروسية ،إلى جانب ذلك يسوحُ بك هذا العمل في معالم دمشق وتراكماتها التاريخية إذ أنَّ المسجد الأموي كان معبداً لجماعة يعبدون (جوبيتر) ومن ثم تحول الى الكنيسة إلى أن أصبح جامعاً للمسلمين،ضفْ إلى ذلك تروي نلسيهان لعشيقها يوسف قصة بناء الجامع السليمي الذي يضمُ رفات إبن عربي.كما تردُ الإشارةُ في إطار النص إلى فتنة 1860 ومظاهرات نسائية،وهذا لايذهب بالرواية نحو منحى توثيقي.
جينات التمرد
تجربة نلسيهان تحملُ جينات تكوينها الأسري وملامح المكان الذي نشأت فيه فهي صاحبت يوسف اليهودي حيث أطلقت لرغبات جسدها العنان مع الأخير كماأنصتت إلى حكاية دادا بحري التي إنطلقت من سلطنة البرنو مع محمود باشا وخبأت ربتها (إيللويا) في الصحراء وعايشت أجواء المبغى في طرابلس، وتعرفت على الزنجيات اللائي تكلمن (الكنورية).إلى أن إستقرت بدمشق،كما شاهدت على طقوس الحبوبة آسيا التي تتظاهر بإسلامها لكن تبوح بِمُقتنعاتها الدينية المندائية وتبلغ نلسيهان بما يؤمنُ به أتباعُ هذه الديانةِ من كتاب مقدس (كنزه ريه)، وإبتهالاتهم في معبد (المندى) فضلاً على ماتتعلم من آسيا عن أسرار النجوم ولغة الأرقام،مايجدرُ بالذكر في هذا المقام أنَّ هذا الإطار الذي يجمع بين ثلاث شخصيات من ديانات مُختلفة يُحليك إلى أسلوب الكاتبة التركية أليف شافاك في روايتها الأخيرة التي تتمحور حول ثلاث فتيات تتباين إتجاهاتهُنَّ الفكرية،تُسندُ الكاتبة وظيفة السرد إلى راوِ غائب يُنظمُ وحدات الرواية ،وقد ينسحبُ من المشهد تاركاً المجال لتبادل موقع الراوي والمروي له بين الشخصيات،وبذلك تتسعُ الررواية لحكايات فرعية مثلما ترويه البطلة عن رحلة إمها فرلان من دير الراهبات في مُسْتَعْمَرةِ برتُغالية ومن ثُمَّ وصولها إلى البصرة قبل أن تنضم إلى قصر محمود باشا،كما أنَّ الصراعات التي تدور بين محظيات حرملك والعلاقة المتوترة بين نسليهان وناظم بك الذي يكتشفُ ماتدفنه إبنة عمها من الكيد ضده وماعملته مع إخته (نورجيهان) تُشكل بنية النص،هذا إضافة إلى ماتفصح به الشخصية الإساسية من الإهتمام بالجانب الإيروتيكي وما تكمنهُ من النزعة النرجسية تعبر عن إعجابها بشخصية «بتشورين» بطل رواية ليرمنتوف واصفة إياه بنموذج مثالي للأنانية،فهي لاتستنكفُ من الحديث حول علاقاتها الحميمية مع يوسف لإبنة عمها وتجوب في سيارة الدودج بشوارع دمشق،بقصة شعرها القصيرة مُتحدية منظومة المُجتمع الذكوري،بالمقابل يُمثلُ ناظم بك صورة للعقل الإقطاعي ينتقم من نسليهان ويُسقط عنها حق الميراث،إذ يشعل النار في غرفة تضم ناسلي وآسيا وبحري غير أن الجميع يشكون من موت بنت الباشا ولم يُعثر على جثتها وتتالى حولها قصص كثيرة،وتتحول إلى شبح يتواجد في كل زوايا المدينة،الثيمة الأساسية لهذا العمل هي التناغم بين الأديان وهذا ما تعودُ إليه الكاتبة في الفصل الأخير وتُشدد عليه كما تُمررُ رؤية حول ترابط بين تحرر الجسد والعقل. مايجدرُ بالإشارة أنَّ دور المرأة لايختزلُ في روايات الكاتبة السورية لينا هويان الحسن في قوالب مُستهلكة، كما أنَّ وجودها ليس عاملاً للتشويق والإثارة وإضفاء طابع ميلودرامي إلى تركيبة النص.