علوان السلمان
القصة القصيرة حيز ابداعي ينمو في زمكانية مندرجة في اعماق الحدث، انها مغامرة فكرية لاكتشاف اسرار الواقع الحياتي، كونها فعل فني ابداعي يتناول الواقع باقتناص اللحظة منه ونقلها الى المخيلة والفكر من اجل تحقيق المنفعة والمتعة بنسجه لعوالمه بتوظيف لغة تختصر المسافات بين الواقعي والتخييلي لتحقيق عوالمه التي تسعى الى تجاوز المألوف عبر الصراعات بتعدد الرؤى والوعي الفكري المقترن بالوعي الفني.
والقاصة هدى جبار الغراوي في مجموعتها القصصية (تشوهات) وتصدير مضاف شكل نصا موازا (الى الذين يحملون في رؤوسهم بطونل جائعة.)، والتي أسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2018. كونها تتخطى المشاعر الى وصف الانفعالات والكشف عن الباطني منها، بتوظفها السيميولوجيا لتغطية الجوانب المحيطة بالحدث بوساطة تكثيف التعبير والتعامل مع الاشارة الجمالية.
(نظرت اليّ امرأة لا أعرفها، صفت اصابعها بشكل أفقي، وضعتها على شفتها العليا، رفعت خنصرها بشيء من الغرور، بعدها أطلقت زعيقا متتاليا كأنه جرس المدرسة عندما يتعطل فجأة فلا يستطيع أحد إيقافه، لقد حضروا، سيأخذونني من بين أهلي بزغاريد الفرح، ابتسامتي العذراء جعلتني لا ادرك الموقف، شعرت بشيء من الغباء وأنا أرى الجميع يتجمهرون حولي، تساءلت وقتها كيف لي أن أبدو مبتسمة طيلة هذا اليوم؟، لا ادري من منهن أخذت تعدل من وضع الوشاح على رأسي حين أفلتت ماسكة الشعر، ذلك لان أم زوجي قبلتني بلهفة كأنها نقار خشب.. همست في أذني شيئا على الرغم من انني لم أسمع ما قالت، لكني ابتسمت فهذه الحركة التمثيلية كثيرا ما تحصل في المناسبات للفت الانتباه.
أتذكر جيدا ابنة جارتنا حين زفت الى بيت زوجها كانت تبكي، فأصبح وجهها مثل دمية صنعت من طين، ملامح بلا روح، وبقعة من السخام أسفل عينيها، فيما بعد قالت أمها انه كحل من أجود الانواع جلبته لها من مكة المكرمة) /ص11 ـ ص12
فالقاصة تقدم انموذجها الانساني باعتماد الجمل المكثفة التي تصور عالما تتسع دلالاته وتكتظ بالمشاعر المتناقضة التي يحدثها الغياب، عبر رؤية محدودة بمنطق جمالي من خلال المشهد والارتقاء به بلغة تعتمد التكثيف مع ايحائية واكتظاظ بالحركة والحياة بتوظيفها تقانتي الاستباق والاسترجاع والتذكر، معبرة عن وجودها وابتعادها عن التكلف مع تآلفها ومنطق الحياة.
فالعنوان(تشوهات) جملة اسمية خبرية حذف أحد اركانها تدل على المطلق بدلالة التنكير وهو يحيل الى حالة نفسية من جهة ودلالة تشير لمتلقيها من اجل تناول السرد بنصوصه التي فرشت روحها على امتداد الصفحات البيضاء.
(ازدحمت الصور في رأسي وبدأت الخطى تقترب مني، لم أقو على ان أنظر الى من سيقتلني أو ربما لم أرغب بأن ينقطع شريط ذكرياتي، تشهدت وودت أن أصرخ عاليا، صوت ناعم قال لي:أخفتني..كنت أظنك الموت..كانت فتاة بعمري تقريبا..عيناها يمكث فيهما حزن عميق جعلني أطمئن لها..تفرست وجهها بنظرات كطفل جائع ينظر الى رغيف خبز ويحلم ان يتذوقه: من أنتِ..
ـ أنا مثلك جعلتني المصائب أسلك طرقا معتمة كي أتمكن من الحفاظ على نفسي،
ـ من الذي جاء بك الى هنا؟
ـ الموت الذي كان يطاردك
أعجبني منطقها وعدم اكتراثها في آن واحد، كأنها قدر يدور على أشلاء الانتظار بقوتها وحديثها المتزن، أنفاسها تمزق ستار الليل..جلست بقربي غير خائفة تحدق في الفضاء..لم تنتظر مني أي كلام..سارحة بعالم آخر..)/ ص51 ـ ص52
فالقاصة تطرح تجربة حوارية تتأرجح ما بين ضمير الغائب وضمير المخاطب الآخر،وما بينهما يسير النص عبر منولوجية تكشف عن دخيلة الساردة ودوافعها النفسية والتكنيكية ،فالتنقيط الذي يشكل وسيلة تعبيرية ترمز للمحذوف المسكوت عنه من التعابير، اضافة الى اضفاء جو نغمي يحرك الخزانة الفكرية للمتلقي ويحثها على التأمل من اجل استيعاب المحتوى والوقوف على نوع الدفق الفكري والوجداني للمبدع ومن ثم المشاركة في املاء الفراغات التنقيطية كي يكون مسهما فاعلا في بناء النص،كون القاصة تعي تقنية النص الذي تشتغل عليه ودلالاته وموحياته النفسية والفنية، لذا فهي تعتمد الاختزال في الوصف مع سيطرة على المشاعر فتقدم مشهدية تأملية خارج نطاق الذات بلغة شاعرية الحس متجاوزة حدود الزمكانية والوصف، متدفقة بعذوبة مموسقة بحركة الحياة الاليفة لتحقيق التماهي..
لقد تشكلت في قصص القاصة مهارات الاخيلة في تركيب بنائي ولغة شاعرة اعتمدت الاقتصاد في الالفاظ واعتماد ميكانيكية حركية غائرة في عمق الحدث الذي يجسد عنصر الفكرة الدقيقة المجردة وهي تحتضن الحس المرهف الشفيف مع تدفق شعور الذات المتداخل والحدث السابح في زمكانية مع حوار داخلي منولوجي، فكانت العناصر الابداعية متناغمة مع الفكرة بوحدة عضوية متماسكة ،محكمة البناء، بتقديمها اللحظة السردية المكتنزة والمترعة بالجمال بلغة قادرة على التعبير والايحاء، اذ انها تختار اللغة المكثفة واللحظة المتسارعة المشحونة بالألم لترسمها على نافذة ادراك متلقيها فيتأملها محركا خزانته الفكرية شاغلا لها بالتحليل والتأويل.
لقد استطاعت القاصة عبر قصصها هذه ان تنسج عوالمها وتجيد العزف بمفرداتها بحثا عن موقف رؤيوي، انساني، بتتابع الاحداث والمشاهد مع تكثيف الاحساس في صور حركية داخل بنية سردية تشكلت من جزئيات التجربة، نتيجة امتلاكها قدرة انفعالية تتعايش في احضان الواقع الذي تربطها معه علاقات انسانية متحركة، وهذا لا يأتي الا من امتلاء المخيلة بالمعطيات الحسية التي تتفاعل معها، محاولة التعبير عن موقف اجتماعي وانساني في حمل دلالات الواقع بكل تناقضاته وافرازاته.