ليلى عبد الله
كان يرسم دون ريشة ودون ألوان زيتية، فقط ببعض الألوان المائية من النوع الرخيص على قطعة خشبية لا يتجاوز سمكها ثمانية سنتيمترات، وعوضاً عن الفرشاة كان يحمل مفك براغ من النوع الأوتوماتيكي، أما المادة التي يرسم بها فهي مئات من البراغي بأحجام مختلفة.
ظل بالي مشغولاً طوال فترة بث الشريط الوثائقي، كيف يمكن لرسام أن يرسم دون فرشاة؟ والرائع في الأمر أن اللوحة تكاد تنبض بالحياة بنسبة ثمانين بالمئة، فعندما تتحسس البراغي بيدك يمكنك أن تتخيل ملامح الشخص دون أن تراه. اتجهت مباشرة إلى حاسوبي فتحته ثم فتحت حسابي على الفيسبوك وكتبت رسالة لصديق محتواها أنني قادمة غداً إلى مرسمه لأمر ضروري.
في الغد اتجهت لأقرب محل يمكن أن أجد فيه مفكاً أوتوماتيكياً وثلاث علب من البراغي المختلفة الحجم، دفعت ثمنها وقصدت مرسم صديقي آملة أن أجده بمفرده.
منذ الوهلة الأولى التي تقاطعت فيها نظراتنا أحس بأنني أتيت لأمر هام، وضع حاملة الألوان على الطاولة بجانبه ورمى بالفرشاة في كوب الماء أمامه ووضع يديه على صدره متسائلاً: ما الأمر الهام الذي جعلك تأتين باكراً؟ وقتها نظرت إلى ساعتي فوجدتها لم تتجاوز السابعة ونصف صباحاً.
وضعت البراغي والمفك على الطاولة وبدأت في شرح الفكرة، كان ينظر إليّ بانتباه تعلوه
«طلبت منه أن يتمعن أكثر في التفاصيل فأعاد يده على اللوحة ومررها بتأن أكثر من المرة السابقة، ساعتها ارتسمت على وجهه تعابير كثيرة، ابتسم ثم عقد حاجبيه وسالت دمعة على خده مسحها بسرعة ثم قال «لم أرك منذ ثمانية عشر عاماً» دهشة ثم سحبت من حقيبتي صورة وقلت له «أريدك أن تطبق ما قلته لك على هذه الصورة».
«لكنني لا أعرف كيف سأرسم بهذه الأشياء، الأمر ليس بالسَهل»، قالها وهو مقطب الجبين، طبعت على خده قبلة وودعته قائلة: بالتأكيد ستجد حلاً لهذه المشكلة.
مرت الساعات في المرسم ثقيلة بطيئة طويلة تتمطط كأنها علكة تحاول اقتلاعها من الإسفلت وهو ساخن. وضع اللوحة أمامه بعد أن أجرى عليها بعض التعديلات فغير قطعة القماش البيضاء بلوح يمكنه تحمل ثقب البراغي، جلس أمامها وهو يفكر كيف له أن ينفذ الرسمة؟
أخذ قلم الرصاص ورسم المحيط الخارجي للوجه دون أن يدخل في تفاصيله ثم تخيل طريقة تثبيت البراغي، حمل أول برغي وثبته على المفك ثم غرسه في اللوحة وضغط على الزر فأحدث أزيزاً وغاص ثلث البرغي في القطعة الخشبية. لم يكن تثبيت القطعة الحديدية بالأمر الصعب لكن الأمر تطلب الانتباه الشديد. بعد أن أنهى المحيط الخارجي للرسم وحتى تسهل عملية رص البراغي قرر أن يملأ الفضاء الداخلي بنقاط بألوان مختلفة يحدد من خلالها ملامح الوجه. لم يشعر بمضي الوقت إلى أن مرَّ طيف أمامه فالتفت فوجدها متسمرة وعلامة الاندهاش على وجهها.
- «لم أتوقع هذه النتيجة بهذه السرعة. كيف أمكنك فعلها؟».
- «لم يكن الأمر بالهين لكني تمكنت من إيجاد التقنية التي تساعدني على تثبيت البراغي بشكل جيد».
أخذت أتحسس تموجات البراغي، أغمضت عيني وبدأت أتخيل شكل الوجه، جبين صغير ثم تجويف عينين مع أنف دقيق وذقن بارز إلى الأمام. سالت دمعة حارة عندما فتحت عيني، كان وجهي مرسوماً بدقة، مسحت دمعتي ثم طلبت من صديقي أن ينهي تلوين البراغي حتى تتضح معالم الوجه بشكل جيد.
في الغد اصطحبت أبي إلى المرسم وأخبرته بأننا سنذهب لشراء بعض الأغراض. نزلنا من السيارة، خطا خطوتين فقط ثم توقف. يخاف أبي الأماكن الجديدة ولا يتجرأ على التحرك في مكان لا يعرف تفاصيله، التفاصيل التي حفظها عن منزلنا منذ سنوات هي مرشده لحد الآن. أخذته من يده وعبرنا بابا حديديا، بعض الخطوات وتوقفنا أمام عتبة المرسم. لحظتها أخبرته أنني أعددت له مفاجأة.
أعنته على تجاوز العتبة ثم أوقفته أمام اللوحة، أخذت يده ووضعتها عليها ثم تركته يكتشفها. لم يفهم في بادئ الأمر ما يحدث لكن سرعان ما شدته اللوحة فانسجم معها وأخذ يتلمسها، مرر يده مرتين ثم التفت يبحث عني قائلا «إنه وجه». طلبت منه أن يتمعن أكثر في التفاصيل فأعاد يده على اللوحة ومررها بتأن أكثر من المرة السابقة، ساعتها ارتسمت على وجهه تعابير كثيرة، ابتسم ثم عقد حاجبيه وسالت دمعة على خده مسحها بسرعة ثم قال «لم أرك منذ ثمانية عشر عاماً».
*كاتبة من تونس