عباس عبد جاسم
لعل أول قطيعة عنيفة مع قصيدة النثر العراقية، تمثّلت في « الأطروحة الشعبية « – 1994 و» جوائز السنة الكبيسة « – 1995 للشاعر الراحل رعد عبد القادر **، فقد كسرت هاتان المجموعتان النمط المألوف لقصيدة النثر، والخروج عليها كلياً على مستوى؛ عنف اللغة، وعنف الرؤية، وعنف الشكل، وكانت كل منهما صادمة للذائقة الشعرية.
لقد أطاحت « الأطروحة الشعبية « بـ « البلاغة السلطانية « و» المحسنات الأسلوبية « ، وخلخلت اللغة الفصحى باللهجات العامية ، مما إستدعت الى ذهن القارئ دعوة عباس بيضون لـ « تفكيك الفصاحة العربية « ( ينظر: الشعر لم يبدأ بعد – عباس بيضون ) والتي كانت إمتدادا ً لِما سماه يوسف الخال بـ « عجز اللغة الفصحى « الناتج عن الإصطدام بما سماه أيضاً بـ « جدار اللغة « ( ينظر: بيان – يوسف الخال 1964 ) ، ورغم ان دعوة عباس بيضون تضمنت نزعة خطيرة في تدمير « النواة العربية « لـ « الفصاحة العربية « ، فانها لا تخلو من نزعة إصلاحية لتحرير الشعر و اللغة والحقيقة من الايديولوجيات الغائبة .
أما « جوائز السّنة الكبيسة «، فقد أطاحت الشكل الشعري المألوف باستخدام شكل المخطوطة العربية الاسلامية، وهي منسوخة بخط اليد، مما كانت تمثل كتابة شعرية مركبة من نصوص ميثولوجية ورسموية وطباعية وفق عمل مركب بحساسية جديدة مضادة تماماً لقصيدة النثر.
و(يتجاور) في هاتين المجموعتين (ما لا يتجاوز) من تنافذ الأشكال، وترافد الاجناس، لإنتاج (بنية) تشاكلية (لا مبنينة) (ينظر: جماليات التجاور – كمال ابو ديب).
وقد تلقف رعد عبد القادر شفرات النص بنزعة متمرّدة، تقترن برؤية عابرة لقصيدة النثر، قبل خروجه عن العائلتة الشعرية التي ينتمي إليها في السبعينيات.
وان كان أنسي الحاج نعت الشاعر بـ « الجنون « في مقدمة « لن «، ودعا الى ممارسة « التخريب المقدس «، فإن « جوائز السنة الكبيسة « تمثل المرحلة الأولى لجنون الشاعر وتمردّه على قوانين عمل القصيدة المألوفة بخلخلة منطقها الداخلي، وتهشيم إطارها الخارجي، ومن ثم الخروج عليها بـ « شكل الأشكال « أو ما سماه بـ « نص النصوص «، وهو بنية سامقة في هرم الكتابة النصوصية.
وفي المرحلة الثانية إصطلح على تسمية الاطروحة الشعبية « بـ « نص في الكتابة الشعرية الجديدة «، وهي كتابة « هرمسية « متقلبة، متغيّرة، متبدّلة، لم تستقر عند حدود قارة.
ويمكن أن نعدّ « نص النصوص « لـ « جوائز السنة الكبيسة « كتابة شعرية عابرة لقصيدة النشر، لأنها تمثل أعلى تمرّد في سياق تطور قصيدة النثر العراقية.
كما تسعى شعرية هذه الكتابة الى زحزحة شعرية الكلام والصوت بالتشكيل البصري لتوزيع البياض والسواد على سطح الورقة، إبتداءً من تحرير المفردة من موقعها من السياق، ومنحها وظيفة جمالية أكثر منها دلالية في انتاج معنى آخر للشعرية، ليس بالضرورة أن يرتبط فيها الدال بالمدلول.
ولكن قبل مقاربة « الاطروحة الشعبية « نوجّه عناية القارئ أيضا ً، الى أن الكتابة الشعرية، لا يمكن ان تحقق حيازة جديدة من دون إتقان قواعد اللعب، وخاصة اللعب الحر، فقد عرّف بول فاليري الشعر» بانه لعب بالكلمات وباللغة لا بالمعنى المجازي، بل بالمعنى الحرفي والحقيقي للفظ اللعب « (يوهان كوتسينغا / ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الانسانية).
وبذا نرى بان اللعب في « الاطروحة الشعبية « حاضر الى أقصى الحدود، من حيث اللعب على الدوال، وبالمدلولات أيضاً، وكيفية صياغة الافعال المتحركة بدلالات: التنثير والتذرير والتشذير، وما جاءت به السوريالية من طرق لتحرير دوال الكتابة الشعرية من المدلولات ورقابة الوعي.
وإن كان كمال أبو ديب ، قد حدّد جماليات التجاور في « انها جماليات تنقض أو توجد في فضاءات لا علاقة له بفضاء جماليات الوحدة « ( جماليات التجاور – كمال ابو ديب / ص 16) ، فإننا نعني بـ « تجاور ما لا يتجاور « بجماليات التعالق بين الاضداد كالتنافر بين الكلمات والمعاني أو بين الدوال والمدلولات ، كالتنافر والتضاد في الكتابة الشعرية الجديدة ، والتي تقود الى إلازاحة والإبدال ، وبذا يتجاور ما لايتجاور من العامية والفصحى ، وما تنطويان عليه من تعالقات بنائية متباينة متعارضة : المعقول واللامعقول / المؤتلف والمختلف/ المركزي والهامشي/ الاستثنائي والعادي .
ومن أهم سمات هذه الكتابة الشعرية: الحياد، كحد فاصل بين الفوضى والنظام، حيث يمثل الحياد نقطة التوازن بين التدمير والبناء، كتدمير « البلاغة السلطانية «، وبناء عالم يتجاور ما لا يتجاور فيه من (الأضداد)، لتتعايش فيه تناقضات الواقع مع جماليات الحياة على سطح واحد.
ورغم ما تخوصنت به « الأطروحة الشعبية « من إزاحات وإبدالات وفق بناءات تركيبية وإحالات مرجعية، فإن ما يعنينا منها: ليس الكيفية في دمج « اللهجات العامية بمجازات الفصاحة العربية «، وانما الكيفية في تفجير مخزون الحثالة الشعبية، ومن ثم إدغامها في الفصاحة العربية باسلوب مراوغ يتجاور ما لا يتجاور فيه من ثنائيات ضدية.
في هذه « الاطروحة الشعبية « يتناسخ الفلكي « بوصفه كائنا ً مفككا ًبرموزه الشعبية:
(مخبّل / مطيرجي / لطّام / مواكبي/ عزائي / جرخجي / جنائزي / لمبجي / قصخّون / نباش / منجّم / نسطوري / نسواني / شقشقي / لبلبان / صعلوك / مهرّج / ….) .
ولكن هل الفلكي قناع لا شخصي للشاعر؟
ان كان غير ذلك، فمن هو؟
– هو دائما ً يضع في فمه بوقا ً اسرافيليا ً ويضع في يده خشخاشة
يخشخش بها
للقرون المظلمة
إنقلابي فظيع
إنقلابي بديع/ الاعمال الكاملة / 345.
وبذا يتجاور ما لا يتجاور في اللعب بالضمائر المتبادلة بين الشاعر والفلكي:
فلك أنا فلك
فلك هو فلك
فلك أنت فلك / الأعمال الكاملة / ص 342 ،351، 355.
ويتجاور مالا يتجاور أيضا ً من العامي والفصيح:
– مطيرجي أعمى
لبس ريش حمامة مذبوحة
وصاح: هذا كفني .. والسماء قبرو
صار يراسل الموتا
والموت يطق بعلكو ويدغدغ المطيرجي بلسانو/ ص 356.
وتختزل أصابع الفلكي تجاور ما لا يتجاور من الفصحى والعامية وفق ثنائية ضدية:
– أصابعه
أصابع تتكلم بلهجة عامية طمغاتها فصيحة / ص 348.
وبقدر ما تقوم هذه الشعرية بـ « تشويش الحواس «، فهي صادمة للذائقة الشعرية، وهنا تكمن جماليات تجاور ما لايتجاور من فصام اللغة، وازدواج الدلالة بين الشاعر والفلكي، وهما وجهان لصورة واحدة متعدّدة:
أنا نورك خبلني
أنا نورك ترس ماعوني
أنا نورك ضرب سقفي
أنا من نورك أمشط شعري
أنا نورك لحسني/ ص 365.
ويمكن نلحظ بأن الـ « أنا « هنا تتكّرر خارج موقعها من سياق كل جملة، لأنها (أنا تشاكلية) تتجاور ما لا يتجاور معها.
وقد تتكرر (عندما) خارج موقعها من السياق أيضا ًبصيغة يتجاور ما لايتجاور معها من المعنى واللامعنى معا ً:
– عندما ورْدَتُك فضة عندما عبيرها جلباب
– عندما مرآتك دفُّ وعندما نقرك ياقوت
إذا ً، ثمة كتابة شعرية مراوغة، يتجاور ما لا يتجاور فيها من الفصحى والعامية، حيث تهدِّم أحدهما الأخرى بقصد البناء، لتحقيق أقصى سياقات الازاحة والابدال بين ثنائيات الأضداد.
———————-
** رعد عبد القادر / المجموعة الكاملة / دار الشؤون الثقافية / بغداد / ط1/ 3013.