تغريد عبد العال
يتجمع الزّمن في لوحات محمّد الرواس المعروضة في غاليري صالح بركات في الحمرا، وتصير اللوحة الواحدة على شكل متحف بصري يجرّب فيها الفنان أكثر من مدرسة فنية، فتأتي النتيجة المدهشة صادمة لعين المتلقي، ليبحث عن أكثر من مكان داخلها وأكثر من زمن. ويكون سؤال الفنان واضحا في كل اللوحات: ماذا يحدث لو تجمّعت مدارس الفن في مكان واحد وفي عمل فني واحد؟ ويأتي الجواب على شكل مجموعات فنية متناغمة ومنسجمة مع بعضها، يرمم فيها الفنان ذاكرته الأولى ولوحاته الأولى ويضعها في قالب عصري جديد، كي تستطيع أن تبقى وتعلن استمرارها رغم مرور الزمن.
يبدأ محمد الرواس فعل ترميمه انطلاقاً من عمله الفني (قطار 1) الذي تركه أثناء الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، والذي ظن أنه فقده للأبد ليجد صورة له فيما بعد. كان فعل الترميم مختلفا جدا، لأن الفنان لم يُعِد اللوحة إلى ما كانت عليه فقط، بل أضاف إليها شخصيات من أسلوبه الحديث، فأصبحت اللوحة بعد الترميم بمثابة مختبر فني يضم أسلوبه القديم والحديث في آن واحد. ونرى في اللوحة الجديدة (قطار 2) كيف تنضم شخصيات تجريدية من اللوحة القديمة وتحتويها في أسلوب متناغم. هنا يحضر الماضي ويتحدث كأنه جزء من الحاضر، حيث يريد الفنان أن يُسكن في لوحته زمنين مختلفين في مكان واحد.
للهندسة حكاية أخرى في لوحات الفنان، فعندما نطالع اللوحة، سيتضح أن هناك أكثر من وجود داخل اللوحة وأكثر من زاوية. ففي لوحة (الزائر الجديد)، يضع الفنان أمام أعيننا إطارات مختلفة وزوايا حول اللوحات، لبث وعي ما داخل المتلقي بأن اللوحة متباينة ومتضمنة أكثر من عمل فني. هذه الخطوط تعطي للوحة أيضا بعدا مكانيا مختلفا، فيبحث المتلقي عن الخارج
«الرواس لم يُعِد اللوحة إلى ما كانت عليه فقط، بل أضاف إليها شخصيات من أسلوبه الحديث، فأصبحت اللوحة بعد الترميم بمثابة مختبر فني يضم أسلوبه القديم والحديث في آن واحد» والداخل فيها. في الداخل نرى الماضي واضحا، بينما في الخارج يتضح الحاضر والواقع، فكلما تقدمنا إلى الأمام رأينا الحاضر وهو يتجسد بواقعية أكثر، وكأن التجريد هو ماضي الأشياء، وهو تجربة الفنان الماضية أيضا.
تتعدد أدوات الفنان في اللوحة الواحدة، كما تتعدد خياراته الفنية، حيث استخدام الزيت والأكريليك والفحم في لوحة واحدة. في لوحة بعنوان سحب الخيوط، تجلس الموديل في منتصف اللوحة وتحمل خيطا كبيرا، وكأنها تحاول أن تخيط اللوحة، جزء من قدمها رسم بطريقة تجريدية والجزء الآخر بشكل واقعي. تلخص هذه الفتاة محاولة الفنان في مزج العناصر والأدوات والأمكنة المختلفة في مكان وزمان واحد.
ونرى في لوحات أخرى، شخصية الموديل، بثياب عصرية، تجالس شخصيات أخرى، آتية من لوحات قديمة، ومن عصر آخر، إلى جانب مكان ما، يضع فيه الفنان لوحاته القديمة. إذ إنها ليست عملية ترميم فقط، بل هي محاولة لإحياء العمل القديم داخل العمل الجديد وإيجاد فضاء له ليتنفس داخل اللوحة.
تبدو الموديل كأنها صورة فوتوغرافية مرسومة بواقعية ودقة، والخيوط في الوسط توحي بتناغم بينهم. لا يلاحظ المتلقي أحيانا أن هذه الشخصيات تتحدث مع بعضها، حيث لا حوار بينها، فكل شخصية مشغولة بعالمها، ولكن وجودها يتقاطع مع وجود الشخصيات الأخرى، حيث الانسجام والتداخل بين الألوان.
يبدو المزج بين الألوان أيضا مشغولا بطريقة ذكية ومتناسبة مع رؤية الفنان المعمارية، ففي إحدى اللوحات، تجلس الموديل في منتصف اللوحة، بينما لون تنّورتها يأتي بنفس لون ثوب الرجل الجالس خلفها، رغم اختلاف شكل الثوب ونوعيته. إنها محاولة لأن تكون هناك وحدة فنية واحدة من خلال اللون. ورغم هذه المحاولة إلا أن الفنان يجتهد أيضا في ترك كل شخصية على سجيّتها معلنة استقلاليتها وانتماءها لزمنها الخاص الذي تتسع له وتتفهمه حدود اللوحة.