في عالم تغيرت فيه مفاهيم القوة والسيطرة والهيمنة ليس من العجيب أن تختزل الحروب الدموية بين البشر في لعبة رقمية تسمى(بوبجي)،وليس مستغرباً ان يُختصر الانقسام والتناحر العرقي والديني بين الشعوب في مباراة بين فريقين رياضيين شهيرين،فهذه هي(القوة الناعمة )التي تغزو العقول وتشغل القلوب وتتلاعب بالمشاعر والأفكار في عصر الانترنيت.
خلال الاسبوع الفائت أُثير موضوع الغزو الرقمي و(الحرب الناعمة) في أربع مناسبات أو وقائع متزامنة:
الأولى:خطبة المرجعية الدينية الشريفة في صلاة الجمعة التي تضمنت توجيهات وتحذيرات مهمة حول النشر الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي والابتزاز الالكتروني في ظل ما يسمى (حرب المعلومات).
أما الثانية فهي تغريدة سماحة السيد مقتدى الصدر حول مخاطر الألعاب الالكترونية والرياضية، وهو يخاطب الشباب مباشرة، محذراً ومنذراً وموجهاً.
والمناسبة الثالثة؛ الجدل السياسي الدائر حالياً حول مقترح (قانون جرائم المعلوماتية) المطروح أمام البرلمان العراقي.
وعلى الصعيد الدولي جاءت الواقعة الرابعة في اعتقال الاسترالي جوليان أسانج مؤسس موقع (ويكليكس) في لندن لتفجر من جديد اهتماماً غير مسبوق حول خطورة سلاح التقنيات الرقمية وإعادة طرح التساؤل القديم مجدداً، هل ثورة المعلومات نعمة أم نقمة؟
شهد مفهوم القوة الناعمة صعودا بعد نهاية الحرب الباردة، على الرغم من أن ما يعبر عنه كان موجوداً، قبلها و في أثنائها، والذي يتجلى في استعمال أدوات الاقناع والاستمالة، وليس الضغط والإكراه في إدارة العلاقات الدولية وقد ارتبط الحديث عن مفهوم القوة الناعمة في تنظيرات جوزيف ناي في كتابه الشهير(Soft Power) منذ التسعينيات في القرن الماضي، وقد ميز ناي بين ثلاثة أنماط من القوة الناعمة هي: (الجاذبية) ويشير الى جذب الانتباه، أما بطريقة سلبية أو إيجابية، والنمط الثاني هو(الاقناع) ويستخدم للتأثير في معتقدات الآخرين وردود أفعالهم، دون التهديد باللجوء للضغط والإكراه، وينصرف النمط الثالث الى وضع جدول الاعمال او ما يطلق عليه Agenda setting وتحديد أولويات الدول والشعوب الأخرى بما يخدم أو يتفق مع أولويات الدولة التي تمارس القوة الناعمة.
مفهوم الجاذبية جرى تسويقه من خلال مفردتين رئيسيتين هما(الديمقراطية) و(الرفاهية) فقد داعبت الدعاية الغربية احلام ملايين الشباب في الدول الفقيرة المتخلفة حول تبني النموذج الرأسمالي الليبرالي في السلطة والاقتصاد وحركت مشاعرهم المتفجرة الغاضبة نحو التغيير السياسي واسقاط الانظمة الحاكمة وسط وعود بالرفاهية واشباع حاجات المحرومين لكن نتائج اغلب الحركات الاحتجاجية الشبابية اسفرت عن خيبات أمل وفوضى وتدمير وهو ما جعل بعضهم يتمنى العودة الى الوراء في زمن يتقدم الى الامام بسرعة الضوء.
أما لعبة الإقناع فهي تجري من خلال مسارات متعددة تعزف سمفونية واحدة حول خلخلة القناعات الموروثة في منظومات الدين والاخلاق والقيم والتراث والتاريخ وجعل كل الثوابت في مهب الشك والمراجعة عبر دراسات وحوارات ومرجعيات جديدة تزعم الاحتكام الى العقل وحده،وتجعل كل ما كان يوصف باليقين مجرد سراب قابل للمناقشة والمساومة،ويمكن ملاحظة خطورة هجوم الاقناع من خلال الترويج الواسع عبر مواقع الكترونية وقنوات فضائية لظاهرتي الالحاد والاباحية المثلية ووصفهما بالحرية الشخصية وحقوق الانسان. اما اعادة ترتيب الاجندات وتقديم بدائل جديدة وفرض خيارات متعددة فإنها تجعل القدرة العقلية في حالة اضطراب في تحديد الاسبقيات في كل القضايا المطروحة ،مثلا جعل الشاب يتساءل أيهما الاقرب الى تحقيق طموحاته الدراسة والتفوق العلمي أم الحصول على المال بأية طريقة،مشروعة وغير مشروعة، وفي الخيار الثاني يصبح مقياس النجاح والوجاهةهو الثروة المالية، ليصبح المرتشي والمختلس والفاسد هو القدوة في المجتمع. ومن نماذج تحديد الأولويات ايضا فرض النمط الاستهلاكي لسلع وخدمات يجري تسويقها عبر الاعلانات وعدها من ضروريات الحياة،مثل السيارات واجهزة الموبايل والملابس والاغذية الجاهزة وغيرها كثير في حين يعاني قطاع واسع من المجتمع من حرمان من ابسط الخدمات الصحية والبلدية والماء والكهرباء.
الغزو العقلي يغير معادلة الصراع فالسلاح اليوم هو المعلومات والهواتف والشاشات الذكية وقد ينتهي قريباً زمن السيوف والمدافع والقنابل والدماء.
د. محمد فلحي